الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يعد الجوع والعطش عند الصوفية هما لا خطوة العملية الثانية في تطبيق الطريق الصوفي، وقد اهتم بها شيوخ الصوفية عامة والأوائل منهم خاصة اهتماما كبيرا، لأنهما نتيجة طبيعية لموقفهم من الدنيا، ودعوتهم إلى الخلوة الصوفية، ولأنهما الخطوة العملية الضرورية التي تدخل الصوفي في صراع عنيف مع أمعائه وأعصابه وكل كيانه قصد بلوغ غاية العبادة الصوفية التي يتحدث عنها معظم الصوفية بالإشارة لا بالعبارة.
فمن أقوالهم في مدح الجوع والعطش والحث عليهما، أن جارية داود الطائي قالت له: أما تشتهي الخبز؟ فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية"[1].
عن بشر الحافي أنه قال:" إن الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق"[2]، وقال له رجل:" بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية وأجعلها إداما؟"[3].
وعن أبي سليمان الداراني أنه قال:" عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي"[4]، وعن حاتم الأصم أنه قال:" من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتا أبيض، وهو الجوع"[5].
وقال أبو محمد رويم بن أحمد البغدادي:" اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك، وأنا عطشان، فاستقيت من دار، ففتحت صبية بابها، ومعها كوز، فلما رأتني قالت: صوفي يشرب بالنهار، فما أفطرت بعد ذلك اليوم قط"[6].
وعن أبي حمزة الصوفي أنه قال: "من رزق ثلاثة أشياء، فقد نجا من الآفات: بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه ذكر دائم"[7].
وعن أبي القاسم الجنيد أنه قال: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات"[8].
وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال:" الجوع سحاب، فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة"[9]، وسئل:" بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟" فقال:" ببطن جائع، وبدن عار"[10].
وقال سهل التستري: اجتمع الخير كله في هذه الخصال الأربع، بها صار الأبدال أبدالا، منها إخماص البطون[11]، وقال:" لما خلق الله تعالى الدنيا جعل في الشبع: المعصية الجهل، وجعل في الجوع: العلم والحكمة"[12]، قال: اتقف مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء، منها: قلة الطعام[13]، وقال: "الجوع سر الله في أرضه، لا يودعه عند من يذيعه"[14]، وقيل أنه:" كان لا يأكل العام إلا في كل خمسة عشر يوما، فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح"[15]، أي: الماء الصافي.
وعن يحيى بن معاذ أنه قال:" لو أن الجوع يباع في سوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره"[16]، وقال:" الجوع نور، والشبع نار، والشهوة مثل الحطب يتولد من الاحتراق، ولا تطفأ ناره حتى يحرق صاحبه"[17].
وقال أبو عبد الله محمد بن خفيف:" دخل أبو طالب خزرج بن علي شيراز، فاعتل علة الذرب، فكنت أخدمه وأقدم إليه الطست في الليل رارا، وكن في ذلك الوقت في حال الرياضة، وكنت لا أفطر إلا على الباقلاء اليابس، فسمع أبو طالب ليلة كسري الباقلاء بأسناني، فقال ل: ما هذا؟ فعرفته حالي وأني لا آكل غير ذلك، فبكى وقال: الزم هذا يا أبا عبد الله، فإني كنت كذلك حتى حضرت ليلة مع أصحابنا في دعوة ببغداد، فقد إلينا رجل حمل مشوي، فأمسكت يدي، فقال لي بعض أصحابنا كل بلا أنت، "فأكلت لقمة، فأنا منذ أربعين سنة إلى خلف، ثم تماثل وخرج إلى بعض النواحي، وجلس في رباط وسود داخل الرباط وخارجه، وقال: هكذا جلوس أهل المصائب، فما خرج منه حتى مات"[18]
وعن أبي علي شقيق بن إبراهيم البلخي أنه قال:" العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلاتها الجوع"[19]، وعن أبي علي الزوذابري أنه قال: إذا قال الوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فالزموه السوق، وأمروه بالكسب"[20]، وقال أبو عثمان المغربي:" الرباني لا يأكل في أربعين يوما، والصمداني في ثمانين يوما"[21].
وذكر الحسين المغازلي أنه رأى الصوفي عبد الله القشاع ليلة قائما على شط دجلة وهو يقول: يا سيدي أنا عطشان يا سيدي أنا عطان حتى أصبح فلما أصبح قال: يا ويلتي تبيح لي شيئا وتحول بيني وبينه وتخطر على شيئا وتخلي بيني وبينه فأيش أصنع ورجع ولم يشرب منه"[22].
ووصف أبو بكر محمد الكلاباذي الصوفية بأنهم:" قوم قد تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الأخدان وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد"[23].
وقال أيضا:" سمعت فارسا يقول: قلت لبعض الفقراء مرة ورأيت عليه أثر الجوع والضر، لم لا تسأل النا فيطعموك؟ قال: أخاف أن أسألهم فيمنعوني، فلا يفلحوا، وقد بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لو صدق السائل ما أفلح من منعه"[24].
وقال الصوفي: أبو طالب المكي: "وفي خبر عيسى عليه السلام:" يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم، وعطشوا أكبادكم، وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل"[25].
وقال عبد الكريم القشيري:" ولهذا كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك"[26]، وقال أيضا:" وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: يا دواد حذر، وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة"[27].
وعن أبي حامد الغزالي أنه قال:" أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفئاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة"[28]، وذكر أن الطريق الصوفي يتكون من أربعة أمور أساسية، منها الجوع[29].
وقال الشهاب السهروردي صاحب العوارف:" فإذا رأى المريد صلاح قلبه في دوام الصوم فليصم دائما ويدع الإفطار جانبا، فهو عون حسن له على ما يريد، روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين"[30].
وذكر أن صوفيا قال:" إذا رأيت الصوفي يصوم صوم التطوع فاتهمه، فإنه قد اجتمع معه شيء من الدنيا"[31].
علما بأن الجوع عند الصوفية لا يقصدون به الجوع العادي الذي يحتمله كل الناس، كجوع الصيام، وإنما يقصدون به الجوع الشديد المخالف للشرع، والمضر بالإنسان والمعطل لطاقاته؟ وقد يعبرون عنه بقلة الطعام، كقول الشهاب السهروردي صاحب العوارف:" وقد اتفق مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء: قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام والاعتزال عن الناس، وقد جعل للجوع وقتين، أحدهما: آخر الأربع والعشرين ساعة فيكون من الرطل لكل ساعتين أوقية بأكلة واحدة يجعلها بعد العشاء الآخرة أو يقسمها أكلتين، كما ذكرنا، والوقت الآخر: على رأس اثنتين وسبعين ساعة، فيكون الطي ليلتين والأفطار في الليلة الثالثة، ويكون لكل يوم ثلث رطل، وبين هذه الوقتين وقت وهو أن يفطر من كل ليلتين ليلة، ويكون لكل يوم وليلة نصف رطل، وهذا ينبغي أن يفعله إذا لم ينتج عليه سآمة وضجرا وقلة انشراح في الذكر والمعاملة، فإذا وجد شيئا من ذلك فليفطر كل ليلة ويأكل الرطل في الوقتين أو في الوقت الواحد، فالنفس إذا أخذت بالإفطار من كل ليلتين ليلة، ثم ردت إلى الإفطار الإدام والشهوات، وقس على هذا، فهي إن أطعمت طمعت، وإن أقنعت قنعت، وقد كان بعضهم ينقص كل ليلة بقدر نشاف العود، ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر، ومنهم من كان يؤخر الأكل ول يعمل في تقليل القوت ولكن يعمل على تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة، وقد فعل ذلك طائفة حتى انتهى طيهم إلى سبعة أيام وعشرة أيام وخمسة عشر يوما إلى الأربعين يوما"[32].
ومن أقوالهم وأحوالهم مع الجوع والعطش، أنه قيل لأبي يزيد البسطامي:" ما أشد ما لقيت في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه.
فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسه منك؟ فقال: أما هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة"[33].
وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال:" قال لي خالي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصارا على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر كل ليلة على أوقية واحدة بحتا، بغير ملح ولا إدام فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة، ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا، ثم سبعا، ثم خمسا وعشرين ليلة، وكنت عليه عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر"[34].
وقال أبو الفرج الموحد إبراهيم بن إسحاق بن البري:" قال لي أبو صالح مفلح بن عبد الله: أقمت أربعين يوما ما شربت ماء، فلما مضى أربعون يوما أخذ بيدي الشيخ أبو بكر محمد بن سيد حمدويه، وحملني إلى بيته، فأخرج لي ماء، وقال: اشرب فشربت، فحكت لي امرأته أنه قال لها:" اشربي فضلة رجل له أربعون يوما ما شرب"، وقال أبو صالح: وما اطلع على تركي لشرب الماء أحد غير الله تعالى"[35].
وقال أبو نعيم الأصبهاني: "حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا إسحاق بن أحمد الفارسي، قال: سمعت أبا زرعة يقول: كان يأتي على محمد ن عمرو المغربي ثمانية عشر يوما لا يذوق فيها ذواقا ولا طعاما ولا شرابا ما رأيت بمصر أصلح منه"[36].
وقال:" حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن يحيى، ثنا إبراهيم بن أبي أيوب، ثنا محمد بن عمرو المغربي وكان يأكل في شهر رمضان أكلتين من غير تكلف، يأكل في كل خمسة عشر يوما"[37].
وقال أيضا:" سمعت أبا بكر الطوسي الدينوري بمكة يقول سمعت شيخي إبراهيم يقول: سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: كان لي شيخ أصحبه يشرب في كل أربعة أشهر شربة من ماء، يعني صاحبه علي بن رزين عاش مائة وعشرين سنة، وتوفى سنة خمس وعشرين ومائتين"[38].
وروى ابن الملقن أن الصوفي مفرج الدمياني مكث ستة أشهر لا يأكل ولا يشرب، وقد ضرب سيده لكي يوقف ما هو فيه فأبى وحسبه مجنونا[39].
وقال القشيري:" سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يذكر بإسناده أن أبا عاقل المغربي: أقام بمكة أربع سنين لم يأكل، ولم يشرب، إلى أن مات"[40].
وروى المؤرخ الصوفي عبد الوهاب الشعراني أن أبا السعود الجارحي:" كان ينزل في سرب تحت الأرض من أول ليلة من رمضان لا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام، وذلك بضوء واحد من غير أكل وأما الماء، فكان يشرب منه كل ليلة قدر أوقية"[41].
وللصوفية روايات حديثية كثيرة احتجوا بها تعضيدا وانتصارا للعباد الصوفية.
منها: قال القشيري:" أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمج بن عبيد الصفار قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا أبو هاشم صاحب الزعفراني قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بن مالك أنه حدثه قال:" جاءت فاطمة رضي الله عنها، بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" ما هذه الكسرة يا فاطمة؟" قالت: قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة.
فقال:" أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام".
وفي بعض الروايات:" جاءت فاطمة رضي الله عنها بقرص شعير" ثم علق القشيري على الحديث بقوله:" ولهذا كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة فإن أرباب السلوك تردجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك"[42].
والحديث الثاني: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد، ثنا أبو اسماعيل الترمذي، ثنا يحيى بن بكير، ثنا بن لهيعة، عن عمارة بن غزية، أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أخبره أنه سمع أنس بن مالك يقول: أقبل أبو طلحة يوما فإذا النبي صلى الله لعيه وسلم قائم يقرئ أصحاب الصفة على بطنه فصيل من حجر يقيم به صلبه من الجوع"[43].
والثالث: حديث أورده الشهاب السهروردي في عوارفه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر"[44].
والرابع: أورده السهروردي أيضا: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أيضا:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم"، قلت: وكيف نديم قرع باب الجنة يا رسول الله؟ قال:" بالجوع والظمأ"[45].
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض شيوخ الصوفية الذين غالوا في الجوع كانوا إذا أكلوا قد لا يأكلون الطعام البشري وإنما يأكلون غيره، منهم مثلا إبراهيم بن أدهم يقال أنه كان يأكل الطين، فمن ذلك ما روى أبو نعيم الأصبهاني، قال:" حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن العباس، ثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي عباد، ثنا سعيد بن حرب قال: قدم إبراهيم مكة فنزل على عبد العزيز بن أبي رواد ومعه جراب من جلد ظبية فعلق جرابه على وتد ثم خرج إلى الطواف فدخل سفيان الثوري دار عبد العزيز فقال: لمن هذه الظبية يعني الجراب، قالوا: لأخيك إبراهيم بن أدهم فقال سفيان: لعل فيها شيئا من فاكهة الشام قال فأنزله فحله فإذا هو محشو بالطين فشد الجراب ورده إلى الوتد وخرج سفيان، فرجع إبراهيم وأخبره عبد العزيز بفعل سفيان فقال أما إنه طعامي منذ شهر"[46]، وقال أيضا:" حدثنا عبد الله، ثنا سلمة، ثنا الحسن بن عياش عن أبي معاوية الأسود قال: رأيت إبراهيم بن أدهم يأكل الطين عشرين يوما، ثم قال: يا أبا معاوية لولا أن أتخوف أن أعين على نفسي ما كان لي طعام إلا الطين حتى ألقى الله، حتى يصفوا لي الحلال من أين هو"[47].
وقال عبد الكريم القشيري مادحا للصوفي محمد بن إسماعيل المغربي:" كان عجيب الشأن، لم يأكل مما وصلت إليه يد بني آدم سنين كثيرة، وكان يتناول من أصول الحشيح أشياء تعود أكلها"[48].
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.