الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبعد ... يُعدُّ الذكرُ وَالسماعُ - الغناء - عندَ الصوفيةِ مِنْ فروعِ الطريقِ الصوفي الأساسي، لأنهم لمَّا اعتزلوا الناسَ وَأخذوا بأنفسِهم وَحملُوها على الجوعِ وَتركِ طلبِ الرزقِ، وَحبَّبوا لها الفقرَ وَالتسولَ، فإنَّما اتخذوا وسائلَ مكملةً للطريقِ الصوفي وَمُنشطةً له، فلماذا اهتمَّ بهما – الذكر والغناء - الصوفيةُ اهتمامًا كبيرًا؟ وَما هي الأدلةُ الشرعيةُ التي احتجوا بها لتأييدِ موقفِهم مِنَ الذكرِ وَالغناءِ الصوفِيَّيْنِ؟
بالنسبةِ للذكرِ وَقراءةِ القرآنِ عندَ الصوفيةِ، فَمِنْ ذلكَ أنَّ الصوفيَّ يزيدَ بن هارون الواسطي سُئِلَ أنْ يدعو؛ فقالَ: (أخشى أنِّي إنْ دعوتُ أنْ يُقالَ لي: إنْ سألتَنا مَا لَكَ عندنا فقدْ اتهمتَنا، وَإنْ سألتَنا مَا ليسَ لكَ عندنا فقدْ أسأتَ الثناءَ علينَا، وَإنْ رضيتَ؛ أجرينَا لكَ مِنَ الأمورِ ما قضينَا لك بِه في الدهورِ)([1]).
وَعَنْ أبي يزيد البسطامي أنَّه قالَ: (ذكرُ اللهِ باللسانِ غفلةٌ)([2])، وَقالَ أبو نعيم الأصبهاني: (حدثنا عمرُ بن أحمدَ، ثنا عبدُ اللهِ بن أحمد، ثنا أحمدُ بن محمدٍ، ثنا عثمانُ عنْ أبي موسى قالَ: قالَ أبُو يزيد: لَمْ أَزَلْ ثلاثين سنة كلَّما أردتُ أنْ أذكرَ اللهَ أتمضمضُ وَأغسلُ لسانِي إِجلالًا للهِ أنْ أذكرَه)([3]).
وَعَنْ سهل بن عبد الله التستري أنَّه قالَ: (قالَ لي خالي يومًا: ألا تذكرْ اللهَ الذي خلقَك؟ فقلتُ: كيفَ أذكرُه؟ فقالَ: قُلْ بقلبِك عندَ تَقَلُّبِكَ في ثيابِك ثلاثَ مراتٍ، منْ غيرِ أنْ تُحَرِّكَ به لسانَك: اللهُ معي، اللهُ ناظرٌ إليَّ، اللهُ شاهدٌ عليَّ، فقلتُ ذلك ثلاثَ ليالٍ، ثم أعلمتُه فقالَ لي: قُلْ في كلِّ ليلةٍ سبعَ مراتٍ، فقلتُ ذلكَ ثمَّ أعلمتُه، فقالَ: قُلْ في كلِّ ليلةٍ إحدى عشرة مرة، فقلتُ ذلكَ، فوقعَ في قلبِي له حلاوةٌ.
فلمَا كان بعدَ سنةٍ، قالَ لي خالي: احفظْ ما علَّمتُك، وَدُمْ عليه إلى أن تدخلَ القبرَ، فإنَّه ينفعُك في الدنيا وَالآخرةِ، فلمْ أَزَلْ على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوةً في سِرِّي)([4]).
وَذكرَ القشيريُّ أنَّ أبا القاسم الجنيد قيلَ لَه: (قُلْ لَا إلَه إلَّا الله، فقالَ: مَا نسيتُه فأذكرَه وَأَنْشَدَ:
حَضَرَ فِي القَلْبِ يَعْمُرُه لَسْتُ أَنْسَاه فَأذْكُرَه
فَهو مَولَاي وَمُعْتَمَدِي وَنَصِيبِي مِنْه أَوفَر)([5])
وَذكرَ أبو حامد الغزالي أنَّه على المريدِ أنْ (يخلو بنفسِه فِي زاويةٍ مع الاقتصارِ على الفرائض وَالرواتبِ، وَيجلسَ فارغَ القلبِ مجموعَ الهمِّ وَلا يَفْرُقُ فِكْرَه بقراءةِ قرآنٍ، وَلا بالتأملِ في تفسيرٍ، وَلا بكُتُبِ حديثٍ وَلا غيره، بلْ يجتهدُ أنْ لَا يخطرَ ببالِه شيءٌ سوى اللهِ تعالى، فلا يزالُ بعدَ جلوسِه في الخلوةِ قائلًا بلسانِه: الله الله على الدوام مع حضورِ القلبِ ...)([6]).
وَقالَ أيضًا: (القرآنُ أفضلُ لعمومِ الخلقِ، وَالذكرُ أفضلُ للذاهبِ إلى اللهِ فِي جميعِ أحوالِه في بدايتِه وَنهايتِه، فإنَّ القرآنَ مشتملٌ على صنوفِ المعارف وَالأحوالِ وَالإرشادِ إلى الطريقِ، فما دامَ العبدُ مفتقرًا إلى تهذيبِ الأخلاقِ وَتحصيلِ المعارفِ فالقرآنُ أولى له.
فإنْ جاوَزَ ذلكَ وَاستولَى الذكرُ على قلبِه فمداومةُ الذكرِ أولى بِه، فإنَّ القرآنَ يجاذبُ خاطرَه وَيسرحُ بِه فِي رياضِ الجنَّةِ، وَالذاهبُ إلى اللهِ لا ينبغِي أنْ يتلفتَ إلى الجنةِّ بلْ يجعلُ همَّه همَّا وَاحدًا، وَذكرَه ذكرًا وَاحدًا، ليدركَ درجةَ الفناءِ وَالاستغراقِ)([7]).
وَرُوي أنَّ الصوفيَّ ابنَ سبعين قالَ لأحدِ تلاميذِه: (وَجميعُ مَا توجَّهَ الضميرُ إليه اذْكُرْهُ بِه وَلَا تبالِ، وَأي شيءٍ يخطرُ ببالِكَ سمِّه بِه)([8]).
وَذكرَ الشيخُ ابنُ تيمية أنَّ منَ الصوفيةِ منْ يقولُ: (ليسَ مقصودُنا إلَّا جمع النفسِ بأي شيءٍ كانَ، حتى يقولَ: لا فرقَ بينَ قولِك "يا حي" وَقولِك "يا جحش"، وَهذَا ممِّا قالَه لي شخصٌ منهم، وَأنكرتُ ذلك عليه، وَمقصودُهم بذلك أن تجتمعَ النفسُ حتى يتنزلَ عليها الشيطانُ)([9]).
وَذكرَ الصوفيُّ عبدُ الوهابِ الشعراني، أن شيخَه نور الدين الموصفي، أخبرَه بأنَّه قرأَ بينَ المغربِ وَالعشاءِ خمسَ ختماتٍ!! وَقرأَ في يومٍ وَليلةٍ ثلاثمائة وَستين ألف ختمة!!)([10]).
وَأخيرًا: فإنَّ منَ الذكرِ الصوفيِّ المشهورِ: المسبعاتِ العشر المنسوبةَ إلى العبدِ الصالحِ الخضرِ، أوردَها أبو طالب المكي بقولِه: (المسبعاتُ العشرُ التِي أهداها الخضرُ - عليه السلام - إلى إبراهيمَ التيمي ووصَّاه أنْ يقولهَا غدوةً وَعشيةً، وَقَالَ له الخضرُ: أعطانِيها محمدٌ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَذكرَ فِي فضلِها وَعِظَمِ شأنِها ما يجلُّ عن الوصفِ، وَأنَّه لا يداومُ على ذلك إلا عبدٌ سعيدٌ، قدْ سَبَقَتْ لَه منَ اللهِ - عز وَجلَّ – الحسنى - وَحذفنا ذكرَ فضائلِها اختصارًا -، فإنْ قالَ ذلك فقدْ استكملَ الفضلَ، وَالمداومةُ عليهنَّ تجمعُ له جميعَ ما ذكرنَاه من الأدعيةِ.
وروى ذلك سعيدُ بنِ سعيدٍ، عنْ أبي طيبة، عنْ كرز بن وبرة - وَكانَ منَ الأبدالِ - قال: أتانِي أخٌ لِي مِنَ الشامِ فأهدى لي هديةً، وَقالَ: يا كرز اقْبَلْ منِّي هذه الهديةَ فإنَّها نِعْمَ الهدية، فقلتُ: يا أخي منْ أهدَى لكَ هذه الهديةَ؟ قالَ: أعطانِيها إبراهيمُ التيمي، قلتُ: أفلمْ تسألْ إبراهيمَ التيمي مَنْ أعطاه؟ قالَ: بلى.
قالَ: كنتُ جالسًا في فِنَاءِ الكعبةِ، وَأنَا في التهليلِ وَالتسبيحِ وَالتحميدِ، فجاءَني رجلٌ فسلَّمَ عليَّ وَجَلسَ عنْ يميني، فلمْ أرَ فِي زمانِي أحسنَ منْه وَجهًا وَلا أحسنَ ثيابًا وَلَا أشدَّ بياضَا وَلَا أطيبَ ريحًا، فقلتُ: يا عبدَ اللهِ منْ أنتَ وَمِنْ أين جئتَ؟ فقالَ: أنا الخضرُ، فقلتُ: في أيِّ شيءٍ جئتَنِي؟ قالَ: جئتًك للسلامِ عليكَ، وَحُبًّا لكَ فِي اللهِ عز وجل، وَعِندِي هديةٌ أريدُ أنْ أهديها إليك.
فقلتُ: ما هي؟ قالَ: هي أنْ تقرأَ قبلَ طلوعِ الشمسِ وَتبسط على الأرضِ وَقبلَ أنْ تغربَ سورةَ الحمدِ سبعَ مراتٍ، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] سبعَ مرات، وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق: 1] سبعَ مرات، وَ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] سبعَ مرات، و{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } [الكافرون: 1]، وَآيةَ الكرسي سبعَ مرات، وَتقولَ سبحانَ الله وَالحمدُ للهِ، وَلا إله إلَّا الله وَاللهُ أكبرُ سبعَ مراتٍ، وَتُصلي على النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - سبعَ مراتٍ، وتستغفرَ لنفسِكَ وَلِوَالديك وَمَا توالدَ وَلِأَهلِك وَللمؤمنين وَالمؤمناتِ - الأحياء منهم والأموات - سبعَ مراتٍ.
وَتقولَ: اللهُمَّ يا ربِّ افعلْ بِي وَبِهم، عاجلًا وَآجلًا، فِي الدينِ والدنيا وَالآخرةِ ما أنتَ لَه أهلٌ، وَلا تفعلْ بِنَا يا مولاي ما نحنُ لَه أهلٌ، إنَّك غفورٌ حليمٌ، جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ سبعَ مراتٍ، وانظرْ أنْ لَا تدعَ ذلكَ غدوةً ولَا عشيةً.
فقلتُ: أُحِبُّ أنْ تخبرَنِي منْ أعطاكَ هذه العطيةَ؟ فقالَ: أعطانِيها محمدٌ - صلى اللهُ عليه وسلم -، فقلتُ: أخبِرْنِي بثوابِ ذلك، فقال لي: إذا لقيتَ محمدًا - صلى اللهُ عليه وسلم - فسَلْه عنْ ثوابِه فإنه سيُخْبِرُك.
فذكرَ إبراهيمُ التيمي - رحمه الله -، أنَّه رأى ذاتَ ليلةٍ في منامِه أنَّ الملائكةَ جاءَتْه فاحتملَتْه حتى أدخلوه الجنةَ فرأى مَا فيها، وَوَصَفَ وَصفًا عظيمًا مما رأى في صفةِ الجنةِ، قالَ: فسألتُ الملائكةَ فقلتُ: لِمَن هذا كله؟ فقالوا: للذي عَمِلَ مثلَ عملِك.
وَذَكَرَ أنَّه أكلَ منْ ثمارِها وَسقوه منْ شرابِها، فأتاني النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - ومعه سبعون نبيًّا وَسبعون صفًّا منَ الملائكةِ، كلُّ صفٍّ مثلُ ما بينَ المشرقِ وَالمغربِ، فسلَّمَ عليَّ وَأخذَ بيدي، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الخضرَ أخبرَنِي أنَّه سَمِعَ منكَ هذا الحديث، فقالَ: ((صَدَقَ الخضرُ وَكُلُّ ما يحكيه فهوَ حقٌّ، وهوَ عالمُ أهلِ الأرضِ، وَهوَ رئيس ُالأبدالِ، وَهوَ مِنْ جنودِ اللهِ عز وجل في الأرضِ)).
فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، فمنْ فعلَ هذا وَلَمْ يَرَ مثلَ الذي رأيتُ في منامِي، هلْ يُعطَى مما أُعْطِيتُه؟ قال: ((وَالذي بعثنِي بالحقِّ إنَّه ليُعْطَى العاملُ بهذَا وَإنْ لَمْ يَرَنِي وَلَمْ يَرَ الجنةَ، إنَّه لَيُغْفَرُ لَه جميعُ الكبائرِ التي عَمِلَها، وَيرفعُ اللهُ عز وجل عنه غضبَه وَمَقْتَه، ويُؤمرُ صاحبُ الشمالِ أنْ لا يكتبَ عليه شيئًا منَ السيئاتِ إلى سنةٍ، وَالذي بعثنِي بالحقِّ نبيًّا ما يعملُ بهذَا إلا مَنْ خَلَقَهُ اللهُ تعالى سعيدًا، وَلَا يتركُه إلَّا مِنْ خَلَقَهُ شَقيًّا))([11]).
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.