الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعد.. هناك أمورٌ تعينُ على محاسبةِ النفسِ وتُقَوِّي بواعثَها، ومنها:
1- استشعارُ رقابةِ اللهِ على العبدِ وَاطِّلاعِه على خفاياه:
اللهُ سبحانه لا تخفى عليه خافيةٌ، يعلمُ السرَّ وَأخفى، وهوَ مُطَّلعٌ على السرائر، يعلمُ مَا توسوسُ بِه الأنفسُ، مَا يلفظُ مِنْ قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ، وَاسشعارُ هذه الرقابةِ الربانيةِ كفيلٌ أنْ يوقظَ المسلمَ مِنْ غفلتِه وَيجعلَه في خشيةٍ دائمةٍ مِنْ سوءِ أعمالِه، وَيقوي إرادتَه على محاسبةِ نفسِه وَمجاهدتِها.
قالَ اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 16-18].
وَقالَ سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
وَقالَ عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
وَقَدْ عَرَّفَ الإمامُ ابنُ القيم المراقبةَ وبيَّنَ ضرورةَ تحقُّقِ العبدِ بِها؛ فقالَ – رحمه الله -: (المراقبةُ دوامُ علمِ العبدِ وَتيقنُه باطلاعِ الحقِّ - سبحانه وتعالى - على ظاهرِه وباطنِه ...، وَالغافلُ عِنْ هذا بمعزلٍ عَنْ حالِ أهلِ البدايات، فكيفَ بحالِ المريدين؟! فكيفَ بحالِ العارفين؟!)([1]).
2- تَذَكُرُ الحسابِ الأكبرِ وَالسؤالِ يومَ القيامةِ:
الحقيقةُ التي ينبغي للمسلمِ ألَّا يغفلَ عنْها أنَّ اللهَ سبحانه سيحاسِبُ العبادَ يومَ القيامةِ وَيسألُهم عمَّا قدَّمُوا منْ خيرٍ أو شرٍّ، وَيومئذٍ تحلُّ بالكفرةِ وَالعصاةِ الندامةُ وَالحسرةُ، أوْ يجدُ الإنسانُ أعمالَه وَقدْ أُحْصيتْ عليه لا يغيبُ منها شيءٌ، وَلوْ كانَ مثقالَ الذرةِ.
وَقَدْ تظاهرتْ الآياتُ فِي بيانِ تصويرِ مشاهدَ الحسابِ وَأهوالِه بصورةٍ تهزُّ أعماقَ النفسِ، وَتستحثُّ المسلمَ أنْ يبادرَ إلى محاسبةِ نفسِه وَتصحيحِ أخطائِها، وَكشفِ بواطنِها لينجوَ مِنْ مواقفَ الخزي يومَ القيامةِ، وَيحظى برحمةِ اللهِ وَسِعَةِ فضلِه فيكونَ مِنَ الفائزين.
وَمَنْ أبرزِ الآياتِ الكريمةِ التِي تصفُ مشاهدَ الحسابِ وَمواقفَه وَشدائدَه، وَمَا يصحابُه مِنْ نَصْبِ الموازين وَنشرِ الصُّحفِ وَكُتُبِ أعمالِ العبادِ قولُه تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وَقولُه سبحانه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6].
وَبالرغمِ مِنْ رهبةِ الموقفِ وَشدتِه، وَانكشافِ خبايا النفوسِ وَنَشْرِ صُحُفِ الأعمالِ التِي لا تغادرُ صغيرةً وَلَا كبيرةً إلا أُحْصيتْ فيها، فإنَّ هناك مَنْ يحاولُ الإنكارَ ظنًّا منه أنَّه سينجو، وَلكنَّ اللهَ يبعثُ شهيدًا عليه مِنْ نفسِه؛ فتنطق أعضاؤُه وَجوارحُه لتكشفَ خباياه على رؤوسِ الأشهادِ، وفِي ذلكَ يقولُ الحقُّ سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
وَيقولُ سبحانه:{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 19-21].
وَيقابلُ تلكَ المشاهدَ الرهيبةَ التِي يتعرضُ لها الكفارُ وَالعصاةُ يومَ الحسابِ، مشاهدُ تُشْرِقُ بالفرحةِ وَالسرورِ لأُناسٍ عرفَوا طريقَ الحقِّ فسلكوه وَاستعدُّوا ليومِ الحسابِ فكانُوا مِنَ المتقينَ؛ فأكرمَهم اللهُ بالغفرانِ، وَآمنَهم مِنَ المخاوفِ، فانطلقُوا يحملونَ كُتُبَ حسناتِهم بِأَيْمَانِهم يتباهون بِها في غِبطةٍ وَسرورٍ؛ وقدْ أخبرَ اللهُ عنهم فقالَ سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 19-22].
وَإذا أرادَ العبدُ أنْ يُحَاسِبَ نفسَه فليتذكرْ هذه المشاهدَ وَليتخذَ العبرةَ منها حتى تقوى فِي نفسِه الهمةُ على المحاسبةِ.
وِفِي ذلكَ يقولُ الحسنُ البصري - رحمه اللهُ -: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ)([2]).
وَيقولُ أيضًا: (أَيْسَرُ النَّاسِ حِسَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الَّذِينَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَوَقَفُوا عِنْدَ هُمُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي هَمُّوا بِهِ لَهُمْ مَضَوْا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَمْسَكُوا، قَالَ: وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الأَمْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الَّذِينَ جَازَفُوا الأُمُورَ فِي الدُّنْيَا، أَخَذُوهَا مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ، فَوَجَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِمْ مَثَاقِيلَ الذَّرِّ)([3]).
كمَا ينبغي للمسلمِ أنْ يستحضرَ فِي نفسِه وَهوَ يحاسبُها مشاهدَ القيامةِ الأخرى بالإضافةِ لمشهدِ الحسابِ وَالجزاءِ، فيتصور عوالمَ القيامةِ وَأهوالَها مِنْ حشرٍ وَصِراطٍ وَجنةٍ وَنارٍ، بِذلك تخشعُ نفسُه وَتستجيبُ للمحاسبةِ راضيةً راغبةً.
وَفِي ذلكَ يقولُ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ - رحمه الله -: (مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا ، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلاسِلَهَا وَأَغْلالَهَا، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأَعْمَلَ صَالِحًا، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الأُمْنِيَةِ، فَاعْمَلِي)([4])، فالنفسُ تتمنى، وَلكنَّ الأماني بدونِ عملٍ سرابٌ خادعٌ.
3- مطالعةُ سيرةِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَأصحابِه وَالسلفِ الصالحِ:
لاشكَّ أنَّ مِنْ أعظم الوسائل العمليةِ فِي تزكيةِ النفسِ أنْ يطالعَ العبدُ سيرةَ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَأصحابِه الكرامِ وَالسلفِ الصالحِ، وَيرى اجتهادَهم فِي العبادةِ وَمسارعتَهم إلى نيلِ رضاءِ اللهِ، وَبذلكَ يرى نفسَه مُقَصِّرًا مهما بذلَ مِنَ الطاعاتِ؛ فيسارعَ إلى محاسبةِ نفسِه على كلِّ عملٍ يعملُه، وَكلِّ وقتٍ يضيعُه، ليلحقَ بالسابقين وَيسيرَ في ركابِهم.
لكنَّه إذا غفلَ عَنْ هذا الجانبِ وَنَظَرَ إلى غيرِه مِنَ العصاةِ وَالفَسَقَةِ فإنَّه سيُصابُ بالغرورِ وَالرضى عَنْ النفسِ، وَتلك آفةُ مُهْلِكةٌ وَمَدْخَلٌ مِنْ مداخلَ الشيطانِ، لا خلاصَ منها إلَّا بالإكثارِ مِنْ مطالعةِ سيرِ الصالحين مِنَ الأنبياءِ وَالصديقين وَالعلماءِ العاملين، وَأنْ يقيسَ المسلمُ نفسَه على ما وَرَدَ في القرآنِ الكريمِ مِنْ أوصافِهم، كماَ فِي أوائلِ سورةِ المؤمنون وَآياتِ عباد الرحمن فِي سورةِ الفرقان وَنحو ذلكَ.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.