انعقدت في نهاية شهر أبريل الماضي الدورة الثانية لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، تحت رعاية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير خارجية دولة الإمارات وبحضور 350 مدعواً من نحو 80 دولة، وتناولت سبل تعزيز السلم من خلال "إعادة برمجة الأولويات في المجتمعات المسلمة".
إلا أن السمة الأكبر لهذه الفعالية تمثلت في تكرار أهداف وتوصيات الدورة الأولى؛ إذ نص الهدف الأول للدورة الثانية على: "استصحاب غايات الدورة الأولى من المنتدى"، في حين لجأ الشيخ عبد الله بن بيه رئيس المنتدى إلى استدعاء المنظومة اللفظية التي وظفها في الدورة الماضية عبر شعارات: "إعلان الحرب على الحرب" و"خفض حرارة جسم الأمة" و"إطفاء الحريق وإنقاذ الغريق".
ويمكن تلمس مظاهر التكرار نفسها في الجهود التي بذلتها الدولة المضيفة لحشد رموز التصوف السياسي في مواجهة المرجعيات الدينية الأخرى، وتسليط الأضواء على شيوخ الصوفية الطرقية وعلى رأسهم زعيم الحركة الخلوتية أحمد الطيب وعبد الله بن بيه وعلي الجفري وحمزة يوسف وأحمد توفيق وأحمد عبادي وأحمد الحداد وشوقي علام وأسامة الأزهري ومصطفى الشريف وغيرهم من متصوفة شبه القارة الهندية والمغرب العربي.
وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لضبط الإيقاع الإعلامي في مفهوم "التسامح وتعزيز السلم"؛ إلا أن الإعلام الرسمي لم يتمكن من مقاومة إغراء الحشد الصوفي غير المسبوق لشن هجوم على التيارات المخالفة والطعن في الخط الديني لدول الجوار، ومن ذلك ما نشرته صحيفة الخليج الإماراتية في تصنيف المؤسسات الدينية إلى صنفين:
"الذين يمثلون دين الإسلام بما هو هداية عقيدية أخلاقية حضارية جمالية مقاصدية منفتحة تنويرية عقلانية إنسانية" وذلك في إشارة إلى رموز التصوف السياسي الذي ترعاه أبوظبي.
"الذين يتمثلونه نظاماً إيديولوجياً سياسياً غايته الأساسية إنقاذ ما يسمى بمبدأ الحاكمية والدولة الدينية ويناصبون المختلفين المضادين القطيعة والإقصاء والعداء على محور يمتد من الترهيب إلى العنف الأقصى"، وهي الصورة المقابلة للدول التي تعلن انتهاج الشريعة أساساً في الحكم، والتي تم وسمها بالعدائية والإقصائية والعنف والترهيب.
وبالإضافة إلى مراوحة خطاب المنتدى مكانه في الدورة الثانية؛ أثبتت التوصيات الختامية على أن إدارة المنتدى لا تزال تدور حول نفسها عبر تكرار التوصيات السابقة متمثلة في: تكوين فرق شبابية لنشر فكر المنتدى، وانتداب ممثلين عن المنتدى للقيام بزيارات ميدانية لمناطق التوتر الطائفي أو الإيديولوجي، وإنشاء قناة فضائية تنشر ثقافة السلم، وإصدار مجلة تعبر عن فكر المنتدى، وتخصيص منح دراسية في هذا المجال.
وكما هو حال جميع الكيانات الناشئة التي تخوض معركة الزعامة والاستحواذ؛ فقد استعر الخلاف حول تحديد الجهة الناظمة للمشروع فتحدثت صحيفة الأهرام المصرية عن قيام: "الإمام الأكبر شيخ الأزهر بتسليم جائزة تعزيز السلم للشيخ وحيد الدين خان" مستبعدة دور الدولة المضيفة ورئيس المنتدى، في حين لجأت صحف الإمارات إلى حل تصالحي عبر التأكيد على أن عملية تسليم الجائزة لمولانا وحيد الدين خان تمت من قبل: الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان والشيخ عبد الله بن بيه والدكتور أحمد الطيب مجتمعين!
والحقيقة هي أن معركة الاستحواذ بين الدراويش الجدد قد أوقعت وسائل الإعلام في حالة إرباك انعكس في تغطية الإعلام الموريتاني للحدث والذي تحدث عن: منح رئاسة منتدى تعزيز السلم مناصفة بين الشيخ عبد الله بن بيه وشيخ الأزهر أحمد الطيب!
وذلك في خلط واضح بين "مجلس الحكماء" الذي استأثر الطيب برئاسته بعد شراكة وجيزة مع ابن بية، ومنتدى تعزيز السلم الذي ترأسه الأخير منذ تأسيسه وأخذ يعمل جاهداً على تحويله إلى: "مؤسسة لها قانون منظم وهياكل إدارية" بعد أن فض الشيخ أحمد الطيب الشراكة معه وانفرد برئاسة "مجلس الحكماء".
التغلغل الاستخباراتي الغربي عبر شبكة الدراويش الجدد:
وفي مشهد كلاسيكي للمسكونين بهواجس التجديد خارج إطار المنهج؛ افتتح الشيخ عبد الله بن بيه على هامش الدورة الثانية للمنتدى مشروع "هاكاثون صناع السلام"، وهي مسابقة تستقطب الشباب لابتكار طرق نقل أفكار المنتدى إلى شباب العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوكلت مهمة دعم الفكرة الفائزة وتمويلها وهيكلة خطتها وترجمتها تنفيذياً إلى مؤسسة "أفينيس" (Affinis Labs) بواشنطن، والتي أسندت إليها كذلك مهمة تأسيس "تيار السلم في المجتمعات المسلمة"، من خلال مؤسسها "كوينتن ويتورويكز" (Quintan Wiktorowicz) ، وهو موظف استخبارات أمريكي عمل لسنوات طويلة في مجال رصد الشبكات الإسلامية واختراق المجموعات الشبابية المسلمة بهدف: "معالجة التطرف من الجذور".
وتبدأ قصة كيونتن عام 1995 عندما حصل على منحة من منظمة "USAID" لدراسة العلوم الإسلامية في القاهرة حيث درس على بعض شيوخ الأزهر، وحصل بعد ذلك على شهادة الدكتوراه من جامعة أمريكية وكانت رسالته عن الإسلاميين في الأردن، ثم انتقل بعدها للتخصص في شبكات الإسلام الحركي فنشر مجموعة من الدراسات أبرزها بحثه حول حركة "المهاجرون" في بريطانيا.
وسرعان ما نقل كوينتن خلفيته الأكاديمية إلى الجانب التطبيقي من خلال عمله في مركز مواجهة التطرف (2005-2009) ثم انتدابه للعمل في السفارة الأمريكية بلندن (2009-2011) للقيام بمهمة التواصل مع المجموعات الشبابية المسلمة ضمن برنامج استخباراتي أمريكي يهدف إلى مكافحة "التطرف الإسلامي" من بداياته.
وتقديراً لجهوده في اختراق المجموعات الشبابية المسلمة في الغرب عمدت إدارة أوباما إلى تعيينه في منصب إداري مرموق بمجلس الأمن القومي الأمريكي، وفي هذه الفترة نسبت إليه صحيفة نيويورك تايمز صياغة برنامج "مكافحة التطرف المفضي إلى العنف" الذي أعلنته إدارة أوباما في شهر أغسطس 2011.
وبالإضافة إلى خبرته الطويلة في مجال اختراق الدوائر الشبابية المسلمة؛ لاحظت بعض المصادر على كوينتن تعاطفه مع بعض المجموعات الإرهابية المرتبطة بإيران مثل "حزب الله" اللبناني، حيث نقلت عنه ثناء كبيراً على: "الدور الإنساني الذي يقوم به الحزب في إدارة المستشفيات والمدارس والجمعيات الخيرية وتنظيم الانتخابات المحلية"، وذلك في شهادة له بمجلس الشيوخ الأمريكي عام 2002.
وفي مقابل التعاطف مع هذه الفئات المتطرفة أبدى كوينتن تشنجاً واضحاً تجاه المملكة العربية السعودية وخطها الديني، وذلك من خلال بحث نشره في ديسمبر 2003 نسب فيه تنظيم القاعدة إلى: "التيار السلفي والفكر الوهابي" الذي ترعاه الرياض، مؤكداً أن هذا الفكر ينزع إلى التشدد ويفتقر إلى التسامح ويعمد إلى مهاجمة المذاهب الإسلامية التي لا تتفق معه وخاصة الشيعة والمتصوفة، بل إن رموزه يعتقدون أنهم هم الفئة الوحيدة التي ستنجو يوم القيامة.
ونظراً لهذه الأفكار المتشنجة تجاه المملكة العربية السعودية فقد وجد كوينتن منفذاً لأفكاره في مجلة "مجلس سياسات الشرق الأوسط" (MEPC) التي يمثل كل من: غراهام فولر نائب رئيس مجلس الأمن الوطني في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأليستر كروك عميل الاستخبارات البريطانية (MI6) ؛ أبرز أعضاء هيئتها الاستشارية.
وكان كروك قد نشر مقالاً في موقع هفنغتون بوست (28 أغسطس 2014) بعنوان: "لا يمكنكم فهم داعش إذا لم تفهموا تاريخ الوهابية في العربية السعودية" والذي ربط فيه تنظيم "داعش" بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأكد أن الخطر القادم على الحضارة البشرية يكمن في: "أصول المشروع السعودي-الوهابي"، مكرراً في ذلك ما قرره أستاذه في التاريخ برنارد لويس عندما شبه أصول الدولة السعودية بحركة "كو كلكس كلان" المسيحية المتطرفة في أمريكا، ومستعيراً التصوير التراجيدي للفكر السلفي في تقارير مؤسسة راند (2003) ومركز نكسون (2004) ومعهد كارنيغي (2007)، والذي تجسد في بحث نشرته صحيفة نيويورك تايمز (20 أغسطس 2012) تحت عنوان: "لا تخافوا من سائر الإسلاميين، بل خافوا من السلفيين" وتحدثت عن ظهور: "هلال سلفي ينبع من مشيخات الخليج [الفارسي] ممتداً إلى الشام وشمال أفريقيا".
ومن خلال توظيف أبوظبي لهذه المجموعة الاستخباراتية الغربية تكتمل دائرة "الحرب على الحرب" التي يشنها عبد الله بن بيه عبر مريديه الذين يجاهرون بتعاونهم مع أجهزة الأمن الغربية بهدف الترويج لمشروع التصوف السياسي، وعلى رأسهم حمزة يوسف الذي حث الإدارة الأمريكية على مواجهة الحكومات التي تقف خلف الحركات "الوهابية الإرهابية" وتمولها، وفق كتاب "الثائر بين الروح والقانون" لمؤلفه سكوت كوغل (Rebel Between Spirit and Law, Scott Kugle)؛ وعبد الحكيم مراد الذي يقدم النصح للمسؤولين البريطانيين حول سبل مكافحة "السلفية-الوهابية" السائرة في ركاب الحكم في المملكة العربية السعودية.
وقد ظهرت النبرة العدائية لدى عبد الحكيم مراد في مقال نشر بصحيفة "إندبندنت" (1 يوليو 2007) أبدى فيه تخوفه من: "نمو النشاط الوهابي السعودي الظلامي المتعصب" محذراً من مغبة انتشار ذلك الفكر بين الشبان المسلمين البريطانيين، ليكمل مراد مع قرينه حمزة يوسف مهمة عميل الاستخبارات البريطانية أليستر كوك وموظف الأمن القومي الأمريكي كوينتن ويتورويكز في اختراق المجموعات الشبابية لتعزيز التصوف السياسي في مواجهة التيارات الإسلامية المخالفة لنهج الدراويش الجدد.
ويجدر تذكير العاملين بمنتدى "تعزيز السلم" أن مهمة تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة لا يمكن أن تتحقق من خلال سياسات الإقصاء وشن الحملات العدائية ضد المخالفين، بل تقوم على استيعاب مختلف ألوان الطيف الإسلامي وعلى الانفتاح وتقبل الخلاف وعقد حوارات شاملة لا تستبعد أحداً.
لكن الخطورة تكمن في التمويل الإماراتي السخي لمشاريع الاستخبارات الغربية التي تمثل في حقيقتها عبثاً بأمن دول مجلس التعاون وتهديداً للسلم المجتمعي في منطقة الخليج العربي.
المصدر: شؤون إسلامية
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.