الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فالحكمةُ: وَضْعُ الشيءِ فِي موضعِه، والنظرُ في الأمورِ بفكرٍ ثاقبٍ وعقلٍ راجحٍ نتيجةَ صفاءِ النفسِ وراحتِها وطمأنينتِها، وهيَ نورٌ يقذفُه اللهُ فِي قلبِ العبدِ يميزُ به بينَ الحقِّ والباطل، والهدى والضلالِ، والضارِّ والنافعِ، والكاملِ والناقصِ، ويبصرُ به مراتبَ الأعمالِ راجحَها ومرجوحَها([1])، وكلما كانَ العبدُ أكثرَ صلاحًا وتزكيةً لنفسِه كانَ حظُّه مِنْ نورِ الحكمةِ أقوى، وتفرسُه في نفسِه وغيرِه أدقَّ.
وَقَدْ تفضلَ المولى سبحانه على عبادِه الصالحين فمنحَهم الحكمةَ وأكرهمَهم بنورِها؛ فقالَ تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
والمرادُ بالحكمةِ هنا كمَا قالَ المفسرون، الإصابةُ في القولِ والعملِ، والفقهُ في دينِ اللهِ، والتفكرُ في أمرِه، والعملُ بطاعتِه، والخشيةُ منه سبحانه، فالحكمةُ لا تختصُّ بالنبوةِ، وإنما هي أعمُّ منها، ولأتباعِ الأنبياءِ حظٌّ منها بحسبِ صلاحِهِم وزكاةِ نفوسِهم([2]).
وقدْ نَوَّرَ اللهُ بالحكمةِ قلوبَ كثيرٍ مِنْ عبادِه؛ ففاضتْ ينابيعُ تلك الحكمةِ على ألسنتِهم حِكَمًا عظيمةً ووصايا نافعةً، ومنها وصايا لقمان لابنِه التي أخبرَ بها اللهُ سبحانه في محكمِ تنزيلِه، فقالَ تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 12-13].
والراجحُ كمَا قالَ العلماءُ أنَّ لقمانَ لمْ يكنْ نبيًّا، وإنما هو عبدٌ صالحٌ أعطاهُ اللهُ الحكمةَ، فأصبحَ ينطقُ بها ويوصي ولدَه بتلك الوصايا النافعةِ ليتمثلَها الناسُ ويقتدوا بها([3]).
فاللهُ سبحانه يمنحُ قلبَ المؤمنِ المنورَ بنورِ القرآنِ ما يزيدُه نورًا، ويجعلُ له واعظًا ودليلًا يوجههُ إلى الخيرِ، ويلهمُه الرشدَ والصوابَ.
وفي ذلكَ يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهِ -: (إذا كانَ القلبُ معمورًا بالتقوى انجلتْ له الأمورُ وانكشفتْ، بخلافِ القلبِ الخرابِ المظلمِ؛ قالَ حذيفةُ ابنُ اليمان: إنَّ فِي قلبِ المؤمنِ سراجًا يزهرُ ...
وكلما قويَ الإيمانُ في القلبِ قويَ انكشافُ الأمورِ له، وعرفَ حقائقَها منْ بواطنِها، وكلما ضعفَ الإيمانُ ضعفَ الكشفُ، وذلكَ مثلُ السراجِ القوي وَالسراجِ الضعيفِ فِي البيتِ المظلمِ، ولهذا قالَ بعضُ السلفِ في قولِه تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]، قالَ: هو المؤمنُ ينطقُ بالحكمةِ المطابقةِ للحقِّ وإنْ لمْ يسمعْ بها في الأثرِ، فإذا سَمِعَ بها في الأثرِ كانَ نورًا على نورٍ، فالإيمانُ فِي قلبِ المؤمنِ يطابقُ نورَ القرآنِ.
وفي الصحيحِ عن النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قالَ: ((قَدْ كَانَ في الأممِ قبلَكم مُحدثون، فإنْ يكنْ فِي أُمَّتِي منهم أحدٌ فعمرُ))([4])، والمُحَدَّثُ: هوَ المُلْهَمُ المُخاطَبُ في سرِّه، ومَا قالَ عمرٌ لشيءٍ إنِّي أظنُّه كذا وكذا إلَّا كانَ كمَا ظَنَّ، وكانوا يرون أنَّ السكينةَ تنطقُ على قلبِهِ وَلسانِهِ)([5]).
ثُمَّ قَالَ - رحمهُ اللهُ: (وكثيرٌ منْ أهلِ الإيمانِ والكشفِ يلقي اللهُ في قلبِه أنَّ هذا الطعامَ حرامٌ، وأنَّ هذا الرجلَ كافرٌ أو فاسقٌ، منْ غيرِ دليلٍ ظاهرٍ، بلْ بما يلقي اللهُ في قلبِه، وكذلكَ بالعكسِ يلقي في قلبِه محبةً لشخصٍ، وأنَّه مِنْ أولياءِ اللهِ، وأنَّ هذا الرجلَ صالحٌ، وهذا الطعامَ حلالٌ، وهذا القولَ صِدْقٌ، فهذا وأمثالُه لا يجوزُ أنْ يُسْتَبْعَدَ فِي حَقِّ أولياءِ اللهِ المؤمنين المتقين)([6]).
وقدْ أفاضَ الإمامُ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهِ - في حديثِه عنْ هذه الثمرةِ مِنْ ثمراتِ التزكيةِ وهيَ الحكمةُ والفراسةُ، وذلكَ في كتابِه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، فبيَّن أنَّ المؤمنَ الخبيرَ بحقائقِ الإيمانِ يفرقُ بينَ الأحوالِ الرحمانيةِ والأحوالِ الشطيانيةِ بما آتاهُ اللهُ مِنْ نورِ الإيمانِ([7]).
واستشهدَ على ذلكَ بقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، وبقولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((اتقوا فراسةَ المؤمنِ فإنَّهُ ينظرُ بنورِ اللهِ))([8]).
وهذه الفراسةُ الإيمانيةُ مهمةٌ للداعيةِ كثيرًا لكي يتعرفَ على أمراضِ نفوسِ المدعوين، ويحسنَ نقطةَ البدءِ بعلاجِهم، ويتلطفَ بهم بحسبِ حالِ كُلِّ واحدٍ منهم.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.