الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛..
الاشتقاقُ اللغوي:
الحُكْمُ: المُنْعُ، والحِكْمَةُ: تمنعُ مِنَ الجهلِ.
والمُحْكَمُ: المُجَرَّبُ المنسوبُ إلى الحكمةِ([1]).
وأحكمتُ الرجلَ وَحَكَمْتُه عَنْ كذا وكذا، أي: مَنَعْتُهُ عنه([2]).
والحكيمُ: هوَ الذي يُحْسِنُ دقائقَ الصناعاتِ ويتقنُها، والحكيمُ: العالِمُ صاحبُ الحكمةِ، والحُكْمُ: القضاءُ بالعدلِ([3]).
والحكيمُ أيضًا: مَنْ يمتنعُ عَنْ فِعْلِ القبائح وَيمنعُ نفسَه منها، وهوَ مأخوذٌ مِنْ "حِكْمَةِ اللجامِ" وهي: الحديدةُ التي تمنعُ الفرسَ وتردُّه إلى مَقْصِدِ الراكبِ، والحَاكِمُ: الفاصلُ بينَ الناسِ بعلمِه والمُلْزِمُ لهم مَا لا يُمْكِنُهُم مخالفته، ولا يدعُهم يخرجون عنه([4]).
وَكُلُّ كلمةٍ وَعَظَتْكَ وَزَجَرَتْكَ وَدَعَتْكَ إلى مكرمةٍ أو نَهَتْكَ عنْ قبيحٍ فهي حِكْمَةٌ وَحِكَمٌ([5])، والحكيمُ: صيغةُ مبالغةٍ على وزنِ "فعيل" بمعنى "فاعل".
الأدلةُ في القرآنِ والسنةِ:
وردَ اسمُ الحكيمِ في كتابِ اللهِ - عزَّ وجل - مقترنًا ببعضِ أسماءِ اللهِ الحسنى، نحو العزيز والخبير والعليم.
فمنْ ذلكَ قولُه تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
وقولُه تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
وَمِنَ السنةِ قولُه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((وسبحانَ اللهِ رَبِّ العالمين، وَلَا حولَ وَلَا قوةَ إلَّا باللهِ العزيزِ الحكيمِ))([6]).
المعنى في حقِّ اللهِ تعالى:
من معاني اسمِ اللهِ الحكيم:
1- أنَّ الحكيمَ: فيه أقوالٌ؛ أحدُهما: المُحْكِمُ، والثاني: الحَاكِمُ، فمنْ قَالَ: المُحْكِمُ؛ فَإِنَّ فعيلًا بمعنى مفعل، ومنْ قَالَ: الحاكمُ؛ فإن فعيلًا بمعنى فاعل، أما الثالثُ: فالحكيمُ هو ذو الحكمةِ([7]).
2- اللهُ هو الحكيمُ الذي لا يَدْخُلُ تدبيرَه خللٌ وَلَا زللٌ([8]).
3- وهوَ الذي لا يقولُ وَلا يفعلُ إلَّا الصوابَ([9])، فلا يفعلُ عبثًا ولا لغيرِ مغزي ومصلحةٍ، بلْ أفعالُه سبحانه صادرةٌ عَنْ حكمةٍ لأجلِها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عنْ أسبابٍ بها فَعَلَ([10]).
4- أنَّ له الحكمةَ البالغةَ فِي كُلِّ ما قَدَّرَهُ وقضَاه مِنْ خيرٍ وَشَرٍّ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، حكمةٌ باهرةٌ تعجزُ العقولُ عَن الإحاطةِ بِكُنْهِهَا، وَتَكَلُّ الألسنةُ عنْ التعبيرِ عنها([11]).
5- أنَّه سبحانه الحكيمُ الموصوفُ بكمالِ الحِكْمَةِ وبكمالِ الحُكْمِ بينَ المخلوقاتِ.
6- أنَّ الحكيم: هو واسعُ العلمِ والاطلاعِ على مبادئِ الأمورِ وعواقبها، واسعُ الحمدِ، تامُّ القدرةِ، عزيزُ الرحمةِ.
7- أنَّه سبحانه الذي يضعُ الأشياءَ مواضعَها، وينزلُها منازلَها اللائقةَ بها في خَلْقِهِ وأمرِه، فَلَا يتوجه إليه سؤالٌ، ولا يقدحُ فِي حكمتِه مقالٌ.
8- أنَّ حِكْمَتَه سبحانه نوعان؛ أحدُهما: الحكمةُ فِي خَلْقِهِ، فإنَّه خَلَقَ الخلقَ بالحقِّ مشتملًا على الحقِّ، وكان غايتُه والمقصودُ به الحقَّ، خَلَقَ المخلوقاتِ كُلَّها بأحسنِ نظامٍ، ورتَّبَها أكملَ ترتيبٍ، وأعطى كُلَّ مخلوقٍ خَلْقَهُ اللائقَ بِه، بَلْ أعطى كُلَّ جزءٍ منْ أجزاءِ المخلوقاتِ وكُلَّ عضوٍ مِنْ أعضاءِ الحيواناتِ خِلْقَتَهُ وَهَيْئَتَهُ، فلا يرى أحدٌ فِي خَلْقِهِ خللًا ولا نقصًا ولا قصورًا، وهذه المخلوقاتُ تتبعُ حُكْمِهِ تعالى في الخَلْقِ وَالأَمْرِ.
النوعُ الثاني: الحكمةُ في شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ، فإنَّه تعالى شَرَعَ الشرائعَ، وأنزلَ الكتبَ، وأرسلَ الرسلَ؛ ليعرفَهُ العبادُ ويعبدوه، فأي حكمةٍ أَجَلُّ مِنْ هذا، وأي فضلٍ وَكرمٍ أعظمُ مِنْ هذا.
9- إنَّ معرفتَه تعالى وعبادتَه وحده لا شريكَ له وَإخلاصَ العملِ لَه وحمدَه وشكرَه والثناءَ عليه أفضلُ العطايا منه لعبادِه على الإطلاقِ، وأجلُّ الفضائل لِمَنْ يَمُنُّ اللهُ عليه بها، وأكملُ سعادةٍ وسرورٍ للقلوبِ والأرواحِ، كمَا أنها هي السببُ الوحيدُ للوصولِ إلى السعادةِ الأبديةِ والنعيمِ الدائمِ، فلو لمْ يَكُنْ فِي أمرِه وشرعِه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصلُ الخيراتِ، وأكملُ اللذاتِ، ولِأَجْلِها خُلِقَتْ الخليقةُ، وحتى الجزاء، وخُلِقَتْ الجنةُ والنارُ، لكانتْ كافيةً شافيةً.
10- أنَّ شرعَه ودينَه قَدْ اشتملَ على كُلِّ خيرٍ، فأخبارُه تملأُ القلوبَ علمًا ويقينًا وإيمانًا وعقائدَ صحيحةً، وتستقيمُ بها القلوبُ ويزولُ انحرافُها، وتُثْمِرُ كُلَّ خُلُقٍ جميلٍ، وعملٍ صالحٍ، وهدى ورشادٍ، وأوامرُه ونواهيه محتويةٌ على غايةِ الحكمةِ والصلاحِ والإصلاحِ للدينِ والدنيا، فإنَّه لا يأمرُ إلَّا بما مصلحتُه خالصةٌ أوْ راجحةٌ، ولا ينهى إلا عمَّا مضرتُه خالصةٌ أوْ راجحةٌ([12]).
ويقولُ الشيخُ ابنُ عثيمين - رحمهُ اللهُ - عنْ هذا الاسمِ المباركِ: (فاللهُ تعالى هو الحكيمُ، الذي لم يخلقْ شيئًا عبثًا، ولم يتركْ خَلْقَهُ سدى، كُلُّ ما خَلَقَهُ فهو لغايةٍ محمودةٍ، وعلى الغايةٍ المطلوبةٍ، قدْ وَضَعَ أحكامَه مواضِعَهَا، وأتقنَ مخلوقاتِه وأبدَعَهَا.
وكمَا أنَّه الحكيمُ فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ فهو الحكيمُ في شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ، فمَا أمرَ بشيءٍ إلا والعقلُ السليمُ يستحسنهُ ويرضاه، وما نهى عَنْ شيءٍ إلَّا والعقلُ السليمُ يستنكرُه ويأباه.
فَمَنْ شَاهَدَ الحكمةَ في أمرِ اللهِ وَأفعالِه، فذاك الذي رَضِيَ بِه رَبًّا، واطمأنَ قلبُه فِي جميعِ أحوالِه؛ إنْ أصابَتْهُ ضراء قَالَ: إنَّ ذلكَ لحكمةٍ فرضيَ وصبرَ، وإنْ أصابَتْهُ سراء عَلِمَ أَنَّ ذلكَ لحكمةٍ فَسُرَّ بالنعماءِ وَشَكَرَ، وأمَّا مَنْ غَفَلَ عنْ حِكْمَةِ اللهِ فإنَّه يلحقُه القلقُ والاضطرابُ، ويستولي عليه الشكُّ وَالارتيابُ)([13]).
11- أنَّه سبحانه الحكيمُ؛ أي الحاكمُ، له الحُكْمُ كُلُّهُ وإليه يُرْجَعُ الأمرُ كُلُّه، فَيَحْكُمُ على عبادِه بقضائِه وقدرِه، ويحكمُ بينهم بدينِه وشرعِه، ثُمَّ يومَ القيامةِ يحكمُ بينهم بالجزاءِ بينَ فضلِه وعدلِه، وهو ذو الحكمةِ، والحكمةُ ضدُّ السَّفَهِ، فهي وَضْعُ الأشياءِ في مواضعِها اللائقةِ بها، وهوَ أيضًا المُحْكِمُ الذي أَحْكَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ([14]).
المعنى عندَ المخالفين وَالمناقشةُ والردُّ:
أولًا: المعنى عندَ المعتزلةِ:
الحكيمُ: هوَ الذي لا يعدلُ عَنْ العدلِ فِي أفعالِه([15]).
والحكيمُ: هو الذي لا يثيبُ ولا يعاقبُ إلا عنْ حكمةٍ وصوابٍ([18])، ولا يفعلُ فِعْلًا إلَّا لغرضٍ صحيحٍ ولحكمةٍ بالغةٍ، وإنْ غَفَلَ عنها الغافلون، ولمْ يتوصلْ لمعرفتِها العاقلون([19]).
الردُّ على ذلكَ:
يعتقدُ المعتزلةُ أَنَّ أحدَ المعاني التي يتضمنُها هذا الاسمُ المباركُ: أنَّ اللهَ تعالى لا يفعلُ إلا الخيرَ، أمَا الشرُّ وما يتضمنُه لا يكونُ مِنْ فعلِه؛ لأنَّ هذا في نظرِهم مخالفٌ لمعنى اسمِ الحكيمِ، فهذه المسألةُ تحتاجُ لشيءٍ مِنَ البيانِ مع التفصيلِ.
فاللهُ - سبحانه وتعالى - خَالِقٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، فإنَّه خَلَقَ الخيرَ والشرَّ، لِمَا له في ذلكَ مِنَ الحكمةِ، التي باعتبارِها كانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا؛ كَمَا قَالَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7].
فلهذا لا يُضافُ إليه الشرُّ مُفْرَدًا، بَلْ إمَّا أَنْ يدخلَ في العمومِ، وإمَّا أَنْ يُضافَ إلى السببِ، وإمَّا أَنْ يُحْذَفَ فاعلُهُ:
فالأولُ كقولِ اللهِ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
والثاني كقولِه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1-2].
والثالثُ كقولِه في ما حكاه عنْ الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
وهذا لأنَّ ما يخلقُه مِن الأمرِ الذي فيه شَرٌّ بالنسبةِ إلى بعضِ الناسِ فله فيه حكمةٌ، وهو بِخَلْقِهِ لها حميدٌ مجيدٌ، له الملكُ وله الحمدُ، فليستْ بالإضافةِ إليه شَرًّا ولا مذمومةً، فلا يُضَافُ إليه مَا يُشْعِرُ بنقيضِ ذلكَ، كمَا أنَّه سبحانه خالقُ الأمراضِ والأوجاعِ والروائحَ الكريهةِ والصورِ المُستقبحةِ، لِمَا له في ذلكَ مِنَ الحكمةِ البالغةِ.
وهيَ مِنَ اللهِ خَلْقًا لها في غيرِه وجَعْلًا لها عملًا لغيرِه، وهيَ مِنِ العبدِ فعلًا له قائمًا، وكسبًا يجرُّ به منفعةً إليه، أو يدفعُ به مضرةً، واللهُ يخلقُ المُسَبَّبَاتِ بأسبابِها، فيخلُقُ السحابَ بالريحِ، والمطرَ بالسحابِ، والنباتَ بالمطرِ، والحوادثُ تُضَافُ إلى خالقِها باعتبارٍ وإلى أسبابِها باعتبارٍ، وكونُ العبدِ هوَ الذي قامَ به الفعل وإليه يعودُ حكمُه الخاصُّ، فإنَّ اللهَ لا تقومُ بِهِ أفعالُ العبادِ، ولا يتصفُ بها، ولا تعودُ إليه أحكامُها التي تعودُ إلى موصوفاتِها، وأنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ للهِ، وهيَ فِعْلُ العبدِ)([20]).
ثانيًا: المعنى عندَ الأشاعرةِ:
الحكيمُ: ذو الحكمةِ؛ وفيه وجوهٌ:
1- أنَّه فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلِم، ومعنى الإحكامِ فِي حَقِّ اللهِ تعالى في خَلْقِ الأشياءِ، وهوَ إتقانُ التدبيرِ فيها، وحُسْنُ التقديرِ لها.
2- أنَّ الحكمةَ عبارةٌ عنْ معرفةِ أفضل المعلوماتِ بأفضلِ العلومِ، فالحكيمُ بمعنى العليم.
3- الحكمةُ عبارةٌ عنْ كونِه مُقَدَّسًا عنْ فِعْلِ ما لا ينبغي؛ قالَ تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]([21])؛ أي: معنى هذا الاسمِ يدورُ على ثلاثةِ معاني؛ فالحكيمُ هو المُحْكِمُ المُتْقِنُ، وهو الحاكمُ وهوَ العليمُ([22]).
ثالثًا: المعنى عندَ الماتريدية:
الحكيمُ: هوَ الذي أحكمَ كُلَّ شيءٍ فجعلَه دليلًا على وحدانيتِه([23])، وهوَ الذي لا يُخطئُ في شيءٍ([24])، أي المصيبُ في فِعْلِه([25])، والحكيمُ هو الذي لا يخرجُ فِعْلُهُ عَنْ الحكمةِ([26])، وهو حكيمٌ في أمرِه وَنهيه([27])، يضعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي موضعِه([28]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.