بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، فمن اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الوجود كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم 1
يعقد الغلاةُ أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم مخلوقَ من نورِ، وأن هذا النورُ مخلوق من نورِ اللهِ جل وعلا.
فممن قالَ بذلك منهم: ابنُ عربي الحاتمي[1] وعبد الكريم الجيلي[2] وأبو الحسن بن عبد الله البكري[3] والبريلوي، ومحمد عثمان عبده البرهاني وغيرهم.
ومناقشة هؤلاء الغلاةُ فيما يعتقدونه في مطلبين:
الأول: ذكرَ دليلهم والكلام عليه من جهةِ الثبوتِ.
الثاني: المفاسدُ العقديةُ المترتبةُ عليه.
المطلب الأول: ذكر دليلهم والكلام عليه من جهة الثبوت:
استدل الغلاةُ بالحديثِ المنسوبِ إلى جابرِ بن عبد الله الأنصاري رضي اللهُ عنهما في مواضعِ متفرقة من كتبهم، ولكن أشملَ لهذا الحديثُ وجدتها عند شيخُ الطريقةِ البرهانيةِ في كتابهِ تبرئة الذمةِ حيث يقول:" روى عبد الرزاق بسنده في كتابهِ "جنة الخلد" عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:" قلت يا رسولَ اللهِ بأبي أنت وأمي أخبرني عن أولِ شيءِ خلقه اللهُ قبل الأشياءِ؟
قال: يا جابرَ إن اللهَ خلقَ قبل الأشياءِ نور نبيك من نورهِ، فجعلَ ذلك النورُ يدورُ بالقدرةِ حيث شاءَ اللهُ تعالى، ولم يكن في ذلكِ الوقتُ لوح ولا قلمُ ولا جنةُ ولا نارُ، ولا ملكُ ولا سماءُ ولا أرضُ ولا شمسُ ولا قمرُ ولا جنُ ولا إنسُ، فلما ارادَ اللهُ أن يخلقَ الخلقِ قسمَ ذلك النورُ أربعة أجزاء:
فخلقَ من الجزءِ الأولِ القلمِ، ومن الثاني اللوحِ، ومن الثالثِ العرشِ، ثم قسمَ الجزءِ الرابعِ أربعةُ أجزاء.
فخلقَ من الجزءِ الأولِ حملةُ العرشِ ومن الثاني الكرسي، ومن الثالثِ باقي الملائكةِ، ثم قسم الجزءِ الرابعِ أربعةُ أجزاء:
فخلقَ من الجزءِ الأولِ السمواتُ، ومن الجزءِ الثاني الأراضين، ومن الثالثِ الجنةِ والنارِ، ثم قسم الجزءِ الرابعِ إلى أربعةِ أجزاء.
فخلقَ من الجزءِ الأولِ نورُ أبصارِ المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم، وهي المعرفةُ باللهِ، ومن الثالثِ نور أنسهم، وهو التوحيدُ لاَ إلهَ إلا الله محمدُ رسولُ اللهِ.
ثم نظرَ فترشحَ النورُ عرقاَ، فتقطرت منه مائةُ ألف قطرةَ وعشرين ألفاَ وأربعة آلاف قطرةَ، فخلقَ اللهُ كل قطرةِ روحَ نبي رسولَ، ثم تنفستُ أرواحُ الأنبياءِ فخلقَ اللهُ من أنفاسهم أرواح الأولياءِ والسعداءِ والشهداءِ والمطيعين من المؤمنين إلى يومِ القيامةِ، فالعرشُ والكرسي من نوري، والكروبيون من نوري، والروحانيون من نوري، والجنةُ وما فيها من النعيمِ من نوري والشمس والكواكب من نوري، والعقلُ والعلمُ والتوفيقُ من نوري، وأرواح الأنبياءِ والرسلِ من نورِ، والسعداءُ والصالحون من نتائجِ نوري، ثم خلقَ اللهُ آدمَ من الأرضِ وركبَ فيه النورِ وهو الجزءُ الرابعُ، ثم انتقلَ منه إلى شيثِ وكان ينتقلُ من طاهرِ إلى طيبِ إلى أن وصلَ إلى صلبِ عبد اللهَ ومنه إلى وجهِ أمي آمنة ثم أخرني غلى الدنيا فجعلني سيدَ المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغرِ المحجلين، وهكذا بدأ خلقَ نبيك يا جابرَ، حديث صحيح"[4].
أقول وبالله التوفيق: لقد حاولت أن أسيرَ في بحثي هذا في نقد الروايات الحديثيةِ على منهجِ المحدثين قدر الجهدِ، والطاقةِ: فأذكر أقوال أهل العلمِ في نقدِ السندِ ثم المتن، أما الحديثُ موضوعُ الدراسةِ فكل الذين ذكروه لم يذكروا له سنداَ، وإنما اكتفوا بنسبته إلى عبدِ الرزاق الصنعاني فقد دون ذكرِ السندِ ولا الكتابُ الذي وردَ فيه، عدا شيخ الطريقِ البرهانيةِ فقد أحالَ إلى كتابِ "جنة الخلد" ونسبه إلى عبد الرزاق، وقد بحثت عن هذا الكتابُ لعلي أطلعْ على سندِ الحديثِ، ولكن دون جدوى فلم أعثرْ له على أثرِ، بل لم اقفْ على من نسبِ الكتابِ لعبد الرزاق، وكذلك بحثت في كتبِ عبد الرزاق الأخرى فلم أجدْ له أثراَ، وقد بحثَ غيري أيضا عن هذا الحديثُ المزعومُ فلم يعثرُ عليه.
يقول عذابُ الحمشِ:" نسبه العجلوني إلى عبدِ الرزاق وقد كنت أرجحُ أنه في تفسيرهِ لأنني اجتهدت فلم أقفْ عليه في المصنفِ...إلى أن قالَ: ثم ترجحَ عندي أنه من غرائب ابن عربي وابن حمويه والبكري"[5].
بل قد شهدَ شاهدُ من القومِ على براءةِ عبد الرزاق من هذا الحديثُ.
يقول عبد الله بن الصديقِ الغماري معلقاَ على قولِ السيوطي في الحاوي على هذا الحديثُ:" إنه غير ثابت":" وهو تساهل قبيح بل الحديثِ ظاهر الوضع، واضحُ النكارةِ، وفيه نفس صوفي...إلى أن قالَ: والعجبُ أن السيوطي عزاهُ إلى عبدِ الرزاق، مع أنه لا يوجدُ في "مصنفهِ" ولا "تفسيرهُ" ولا "جامعهُ" وأعجبْ من هذا أن بعض الشناقطةِ صدقَ هذا العزو المخطئ، فركبَ له إسناداَ من عبدِ الرزاق إلى جابرِ، ويعلمُ اللهُ أن هذا كلهُ لا أصلُ له، فجابرُ رضي اللهُ عنه بريء من روايةِ هذا الحديثُ، وعبد الرزاق لم يسمعُ به، وأولُ من شهرِ هذا الحديثُ ابن عربي الحاتمي، فلا أدري عمن تلقاهِ وهو ثقةُ[6]، فلا بد أن أحد المتصوفةِ المتزهدين وضعهُ، ومثل هذا الحديثُ ما روي من طريقِ أهلِ البيتِ عن علي السلامِ مرفوعاً:" كنت نوراً بين يدي ربي قبل أن يخلقَ آدمُ بأربعةِ عشرَ ألفِ عامِ" وحديث :" لولاك ما خلقتَ الأفلاكُ" وكتبَ المولدُ النبوي ملآى بهذه الموضوعاتُ، وأصبحت عقيدةُ راسخةُ في أذهانِ العامةِ"[7].
ومما يشهدُ على وضعِ الحديثِ أن الغلاةَ لم يعزوه لغير عبد الرزاق مما يؤكدُ خلو دواوينَ السنةِ المعتبرةِ عند عامةَ المسلمين منه كالصحاحِ والسننِ والمسانينِ، ومن القرائنِ التي يعرفُ بها الوضعِ في الحديثِ أن لا يتداوله علماءُ الحديثِ.
[1]الفتوحات المكية (1/199).
[2]الإنسان الكامل (2/46).
[3]البكري: الأنوار ومصباح السرور والأفكار وذكر نور محمد المصطفى المختار (4)، وما بعدها.
[4]تبرئة الذمة (9-10).
[5]تبرئة الذمة (9-10).
[6]ثقة عند الصوفية فقط.
[7]ملحق عن قصيدة البردة كتبه عبد الله الصديق الغماري بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم (75)، تأليف: عبد العال الحمامصي.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.