أول موقف من مواقف اليقين: موقف التوبة الصادقة؛ ولذلك ما من إنسان كثرت ذنوبُه وأراد أن ينيب إلى اللهِ إلا امتحنه اللهُ باليقين، وكلما عظمت ذنوبُ الإنسان ينبغي أن يقفَ بيقينٍ أعظم منها بالله الرحمن.
ولذلك ذكروا عن رجلٍ أنه كان كثير الذنوب، كثير الخطايا والعيوب، فجاءه رجلٌ يذكِّره بالله، وكان هذا الرجل كثير النصح له، فلما أكثَرَ عليه نُصْحَهُ ذاتَ يومٍ قال له: (إنَّ اللهَ لا يغفرُ لك!!)، فاستفاقَ من غفلتِه وانتبه من منامه، وقال له وهو على يقينٍ بالله: (سأُريك كيف يغفرُ اللهُ لي ذنبي)، فخرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة تائبًا إلى الله فطاف بالبيت فخرَّ ميتًا بين الركنِ والمقامِ.
فما أيقن الإنسانُ باللهِ عز وجل وخيَّبه اللهُ سبحانه، ولو أنه جاء إلى اللهِ بذنوبٍ بلغت عنان السماء وقلبُه عامرٌ باليقين بالله ما خيَّبه اللهُ.
قتل رجلٌ مائةَ نفسٍ، آخرها عابد من العبَّاد، فلما قتله جاء إلى رجلٍ من أعلم أهل الأرض في زمانه، وقال له: (هل لي من توبةٍ، فإني قتلتُ مائةَ نفسٍ؟ فقال له ذلك العالمُ: وما الذي يمنعُك من التوبةِ؟!).
ثم أمره أن يخرج إلى قومٍ صالحين، وأن يهاجر إلى اللهِ ربِّ العالمين؛ فخرج من قريةِ السوءِ إلى تلك القريةِ الصالحةِ، فأدركَه الموتُ في الطريق، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذابِ، فقالت ملائكةُ الرحمة: (إنَّه جاءَ تائبًا إلى اللهِ)، وقالت ملائكةُ العذاب: (إنَّه قدْ قَتَلَ مائةَ نفسٍ!!).
فأرسل اللهُ إليهم ملكًا، فأمرهم أن قيسوا ما بين القريتين - عزَّت عند اللهِ خطواتُه إليه في آخر حياته، تائبًا إلى اللهِ عز وجل، ونظر اللهُ إلى قلبِه وهو معمورٌ باليقينِ - فأوحى اللهُ إلى قريةِ الصالحين أن تقاربي، وإلى قريةِ السوءِ أن تباعدي.
وإن دلَّ هذا فإنما يدلُّ على أنه ما أيقن أحدٌ باللهِ فخيَّبَه اللهُ، فخير ما يُوصى به الإنسان من منازل اليقين أن يقوي يقينه بالتوبةِ إلى الله، وما أَكْثَرَ عبدٌ التوبةَ والإنابةَ إلى اللهِ إلا تحاتتْ ذنوبُه فازدادَ إيمانُه وقوي يقينُه.
اليقين عند المصيبة:
الحالة الثانية التي يظهر فيها يقينُ الإنسان: إذا نزلت به المصيبة؛ ولذلك يُصاب المؤمن في نفسه، ويُصاب في أهله، ويُصاب في ولده، وتأتيك تلك الساعة، يأتيك ذاك الخبرُ المزعجُ المؤلم على قلبك وفؤادك، فتُخْبَر بابنٍ فقدته، أو ابنةٍ أو أبٍ أو أُمٍّ أو صديقٍ عزيزٍ عليك وفيٍّ لديك، فتقول: (إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون)، وقلبُك كله يقين أن الخلف والعوض من اللهِ ربِّ العالمين، فسرعان ما يكون من الله لطفه، وسرعان ما يكون من الله عطفه.
فما ألذَّ اليقين، إذا نزلت المصائبُ بعبادِ الله المؤمنين، والله!! ما أُصيب إنسان في نفسه أو في أهله وولده أو في ماله أو في أي شيءٍ عزيز عليه واعتقدَ في قلبه أن اللهَ يعوضه إلا عوَّضه اللهُ عز وجل، فيجب ألَّا يكون في قلب الإنسان مثقال ذرة من سوء الظن بالله.
ولذلك الشيطانُ أحرص ما يكون في مثل هذه المواقف، وتجد المؤمن إذا أصابته المصيبة يأتيه الشيطانُ من كل حَدْبٍ وصوب لكي يخيب ظنَّه بالله، يقول له: (لو كنتَ مؤمنًا ما ابتلاكَ اللهُ بِفَقْدِ وَلَدِكَ، ولو كنتَ مؤمنًا ما ابتلاكَ اللهُ بِفَقْدِ ابنتِك، ولو كنتَ مؤمنًا ما ابتلاكَ اللهُ بِفَقْدِ مالِك، ولو كنت ... ولو كنت ...).
ولكن ما أَحْسَنَ عبدٌ ظنَّه باللهِ فخيَّبه اللهُ أبدًا، إياك أن يدخل إلى قلبِك مثقالُ ذرةٍ من سوء الظنِّ باللهِ عز وجل، فلعلك عندما تفقد المالَ تخرجُ منك كلمةٌ تثني بها على الله فيحبك اللهُ حبًّا لا يسخط عليك بعده، وقد يرفعك اللهُ بهذه الكلمة إلى درجة لا تبلغها بكثير صلاة ولا صيام.
ذكر رجلٌ أنه في ذات يومٍ من الأيام دخل على أبيه وهو في همٍّ وغمٍّ، فلما نظر إليه سأله، فإذا به قد أصابه دَيْنٌ، يقول هذا الرجل - وكان من عبادِ الله الصالحين ومن الشبابِ الأخيار -: (فكان دَيْنُ والدي بمقدار عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفًا، وكان مالي عشرون ألف، تعبتُ عليها حياتي وأنا أجمعُ هذا المالَ؛ لكي أبني مستقبلي.
فلما نظرتُ إلى ما أصابَ أبي ذكرتُ وصيةَ اللهِ بالوالدين، وذكرتُ وصيةَ اللهِ بالإحسانِ إليهما، فقلتُ في نفسي: لو أنني أعطيتُه هذا المالَ الذي أملكُه، فجاءني الشيطانُ وقال لي: تعبُك ومالُك ومستقبلُك يضيعُ في هذه اللحظةِ، يقول: فأصبحتُ في صراعٍ؛ هل أعطيه أو لا أعطيه! فقررتُ أن أعطيه.
قال: فذهبتُ فأخذتُ المالَ وكلي يقينٌ بأنَّ اللهَ سيعوضني عنه، فوضعتُ الخمسة عشر ألفًا بين يديه، وأنا على يقينٍ بأن اللهَ لا يخيبني، يقول: فلما وضعتُها بين يديه فاضت عيناه بالدمعِ، وقال: أسألُ اللهَ العظيمَ أن يفتحَ لك أبوابَ فضلِه، يقول: فقمتُ من عنده، وما مضتْ إلا أيامٌ قليلةٌ فدُعيتُ إلى مناسبةٍ فيها رجلٌ من الأثرياء، وكان يبحثُ عن رجلٍ يقومُ على أموالِه، فقال الرجلُ الذي استضافه: لن تجدْ أَصْلَحَ من هذا الرجل الذي أمامك، يقول: فأخذني وكيلًا على مالِه، وكانت أول صفقة لي من ذلك المال في أول بيعة مائتا ألف ريال)، فرحمه اللهُ عز وجل ولم يخيبه سبحانه.
ولربما أن الإنسان قد يصابُ بفقد البصر، فيسترجع ويحمد الله عز وجل؛ فيعوضه اللهُ إيمانًا في قلبه، ويقينًا بربه، وقد جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكتْ إليه ما تجدُه من فَقْدِ عقلِها والمسِّ الذي أصيبت به في نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنْ شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ اللهَ لكِ، قالت: أصبرُ ولي الجنة))([1])، فكانت امرأة مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض.
وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول لأصحابه: (هل أُريكم امرأةً من أهلِ الجنة؟ انظروا إلى هذه المرأةِ السوداء) رضي الله عنها وأرضاها، ما أيقن أحدٌ باللهِ عز وجل فخيَّبَه اللهُ سبحانه وتعالى، فاليقين باللهِ هو حلاوةُ الإيمان.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.