ردود عبد الله بن عباس رضي الله عنه
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد:إن الصحابة رضي الله عنهم خريجوا المدرسة النبوية، علَّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلم وربَّاهم بتربية كان يتلقَّاها من ربِّه من فوق السماوات السبع، فنشئوا وترعرعوا على التعليمات القرآنية والإرشادات النبوية المطهرة، فكانوا أفضل الناس وصفوة الأخيار، وخير القرون والأمم والأجيال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم: ((خيرُ الناسِ قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه))، فهم الذين آمنوا ولم يلبِسُوا إيمانَهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، بتزكية الله عز وجل لهم وثنائه عليهم.
ملتزمين في ذلك بمنهج القرآن والسنة، متمثلين قولَ الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فمنهجهم رضي الله عنهم في الردِّ على الشبهات كان مشتقًّا ومنبثقًا من القرآن الكريم والسنة النبوية، وتأتي فيما يلي أمثلة من ردودهم:
ردود عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
(1)- الشبهة: "وجوب لبس الثياب الخشنة والامتناع عن لبس الثياب الحسنة".
(2)-الشبهة: "عدم جواز تحكيم الرجال في أمر من الأمور؛ بدليل قول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].
(3)- الشبهة: "قاتل عليٌّ رضي الله عنه معاويةَ رضي الله عنه، ولم يَسْبِ ولم يَغْنَمْ ممن كانوا معه، فلئن كانوا مؤمنين لم يَحِل قتالُهم، ولئن كانوا كافرين حلَّ قتالُهم وسَبْيُهُم".
(4)- الشبهة: "محا عليُّ رضي الله عنه نفسَه عن إمرَةِ المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أميرُ الكافرين".
هذه شبهات أثارها الحرورية من الخوارج الذين انعزلوا عن جيشِ علي رضي الله عنه بعد رجوعه من الشام إلى الكوفة إثر اتفاقه على الصلح، قيل إنهم كانوا ستة عشر ألفًا، وقيل اثني عشر ألفًا، وقيل أقل من ذلك، ونزلوا بمكان يقال حروراء، وأنكروا أشياء وأثاروا هذه الشبهات، فبعثَ عليُّ رضي الله عنه إليهم عبدَ الله بن عباس رضي الله عنه فناظرهم فيها، وردَّ عليهم ما توهموه شبهةً ولم يكن له حقيقة([1]).
حوار ابن عباس رضي الله عنه ورده عليهم:
دخل ابنُ عباس رضي الله عنه فبادروه بقولهم: ماجاء بك يا ابنَ عباس؟ وما هذه الحُلَّة التي عليك؟!
فردَّ عليهم: وما تعيبون من ذلك؟ ولقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، ثم تلا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
فقالوا: ما جاء بك؟
قال: جئتُكم من عند أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهو أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم.
فقال بعضُهم: لا تخاصموا قرشيًّا، فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
وقال بعضُهم: بل نكلِّمُه، قال: فكلَّمَني منهم رجلان أوثلاثة ...
قال: قلتُ: ما نقمتم عليه؟
قالوا: ثلاثًا.
قلتُ: فما هي؟
قالوا: حكَّمَ الرجالَ في أمرِ اللهِ، واللهُ يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].
قال: قلتُ: هذه واحدة، وماذا أيضًا؟
قالوا: فإنه قاتلهم ولم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم، ولئن كانوا كافرين خلَّ قتالُهم وسبيُهم.
قال: قلتُ: ماذا أيضًا؟
قالوا: ومحا نفسَه عن إمرةِ المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أميرُ الكافرين.
قال: قلتُ: فإن أتيتكم من كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه ما ينقضُ قولَكم، أترجعون؟
قالوا: وما لنا لا نرجع؟!
قلتُ: أما قولُكم حكَّمَ الرجالَ في أمرِ اللهِ، فإن اللهَ قال في كتابه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40]، وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]؛ فصيَّر اللهُ ذلك إلى حكمِ الرجالِ، فناشدتكم الله، أتعلمون حكمَ الرجالِ في دماءِ المسلمين وفي إصلاحِ ذات البين، أفضل، أم في ثمن أرنب ثمنه ربع درهم وفي بُضْعِ امرأة؟!
قالوا: بلى هذه أفضل، قال: أخرجتم من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمَّكم عائشة؟! فإن قلتم نسْبِها فتستحل منها ما تستحلُّ من غيرِها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمِّنا فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟
قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرةِ المؤمنين؛ فإني آتيكم ممن ترضون، إن نبيَّ اللهِ يوم الحديبية حين صالحَ أبا سفيان وسهيل بن عمر، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلمُ أنك رسول الله، لو نعلمُ أنك رسول الله ما قاتلناك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ إنك تعلمُ أنِّي رسولُك، يا علي اكتُب: هذا ما اصطَلَحَ عليه محمدٌ بن عبدِ اللهِ وأبو سفيان وسهيلُ بن عمرو))([2]).
فبهذه الأدلة النقلية والعقلية أزال ابن عباس رضي الله عنه هذه الشبهات؛ فرجع من الحروريةُ ألفان، وبقيتُهم الذين عاندوا فخرجوا فقُتلوا جميعًا([3]).
الهوامش
([1]) البداية والنهاية، ابن كثير، (7/279،280)، بتصرف.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.