إن الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن جميع الصفات التي أمرنا الله بها هي مما يحبها الله ويرضاها لعباده المؤمنين، وهي صفات تميز المؤمنين عن غيرهم لذلك ينبغي أن يحرص عليها المؤمن في كل أمر، وما نحن بصدد ذكره من الصفات هي صفة التوكل على الله، فالتوكل هو أحد الأسباب التي يستحق العبد بها التفضيل ورفع الدرجات، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفا، تضيء وجوههم إضاءة القمر» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن الأسدي، يرفع نمرة عليه، قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهم اجعله منهم» ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله: «سبقك عكاشة»[1]
فالإخلاص في التحلي بهذه الصفة العظيمة، والخلق الكريم من الأسباب الفاعلة في حصول النتائج الخيرة، فمن حقق التوكل على الله في ذاته، سيحقق وينال جزاءات عظيمة من هذه الجزاءات: رضوان الله تعالى على العبد المؤمن المتوكل عليه حق توكله، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: 173- 174]
فكل من استجاب لله وللرسول بعزم، ورجى ثواب الله توكل على الله ورضى به كافيًا ومعينًا فله الأجر العظيم لا يحجبه عنه ما كان منه من نقص، وقد تفضل الله بالتوفيق والرضى إذا ما استجاب لأمره ونهيه[2].
فالصادقون في الاستجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمتوكلون على الله حق توكله يحصلون على النعيمين الجثماني والروحاني، وذلك هو الفوز البالغ الغاية؛ لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجارة فالرضا من الله غاية السعادة الأبدية، إذ لا مطلب للمؤمن أعلى منه حتى تمتد عنقه إليه وتتطلق نفسه لبلوغه، وهذا ما نجده لا مطلب للمؤمن أعلى منه حتى تمتد عنقه إليه وتتطلق نفسه لبلوغه[3]، وهذا ما نجده في قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[المائدة: 119].
"لقد صدق المؤمن في توكله فصدقه هذا ينفعه يوم القيامة، وذلك النفع هو الثواب، وحقيقة هذا الثواب: أنه منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم منفعة خالصة من الغموم والهموم"[4]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100].
إن أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لما كانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم استحقوا على ذلك رضي الله تعالى عنهم جميعًا لصلاح أعمالهم وكثرة طاعاتهم ودلت الآية على أن من ابتعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب[5].
إن المؤمن إذا لزم محبوبات الحق سبحانه ولزم ما يرضي الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن الله يرضى عنه لاسيما إذا قام بالإخلاص والصدق فيها وبذل الجهد في التقرب إلى الله تعالى ومن محبوباته سبحانه التوكل عليه بصدق وقد بذلك السابقون وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق والإخلاص فنالوا بذلك رضوان الله تعالى؛ لأنهم انقادوا واستسلموا لله وللرسول ورضوا بربوبيتته وإفراده بالتوكل، والاستعانة به والثقة به.
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، "فالله تعالى يخبر عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان، فقد علم ما في قلوبهم من الصدق والطاعة، فأعطاهم جزاء ما وهبوه من الطاعة الرضا والفتح"[6].
- ومن الجزاءات حب الله تعالى للمؤمن، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قال: من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بهان ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفسي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته"[7].
إن حب الله تعالى للعبد يجعله في استقرار واطمئنان وسكون، ويجعله منقطعًا عن العلائق الدنيوية، وبالتالي يكون المؤمن متصلًا بالله وذلك بالعمل بأمره ونهيه ومحبًا لله يهب نفسه وإرادته وعزيمته وأفعاله كلها لله تعالى، فمن كان كذلك ارتبطت ذاتيته ونفسه بحبل الله فيحصل له من الرحمة والإحسان والبر أتم نصيب، وقد ذكر في تفسير الآية السابقة أن المتوكلين عليه هم الواثقون به المنقطعون إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة[8].
"والغرض من المحبة ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله"[9]، إن صفتي الرجوع إلى الله، والإعراض عن كل ما سوى الله هي صفات تجعل العبد المتمسك بها داخل فيمن يحبهم الله ويرضاه بدلالة الآيات القرآنية، فالمحب الصادق لله ينطق بالله، ويسكت لله، ويفعل لله، ويترك لله، ويستعين بالله، ويتوكل على الله، ويعتصم بالله، ويحب في الله، ويبغض لله، وبعد هذا كله يرى البر به والإحسان إليه، والدفاع عنه، وإيصال المنافع ودفع المضار عنه في الدين والدنيا من قبل الجواد الكريم سبحانه.
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32]، الآية الكريمة متضمنة معنى "أن من إمارات محبة الله تعالى للعبد أن يرى العبد مهديًا مسددًا ذا قبول في الله، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته"[10].
فمحبة الله تعالى للعبد تأتي بعد طاعته واتباع رسوله، "والله تعالى يحب كل من أطاعه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية من غير المحبوب"[11]، فكل من يدخل تحت محبة الله تعالى يكون في ظل ظلليل يوم لا ظل إلا ظله، وجزاء عظيم كبير، ويكفينا من محبة الله " حسن التدبير للعبد، يربيه تعالى م الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينور له عقله، فيتبع كل ما يقربه، وينفر عن كل ما يبعد عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره، من غير ذل للخلق، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هما واحدًا، فإذا زادت المحبة، شغله به عن كل شيء"[12].
ومتى ظفر المؤمن بحب الله له سكن لأقدار الله وطابت نفسه بها؛ لأنه سبحانه لا ينزل بشيء يضر عبده المؤمن، وإذا نزل ما يكرهه المؤمن كان خيرًا له، فسبحانه تولى تدبير أمور المؤمن بموجب علمه، وحكمته، ورحمته، ومحبته فليرض المؤمن بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، فقضاء الله في عبده المؤمن دائر بين العدل، والحكمة، والرحمة، ولنعلم يقينًا أن المكروهات والمحبوبات التي تنزل فيها من ضروب المصالح والمنافع التي لا نحصيها علمًا، ولا فكرًا.
فلنتوكل على الله في أمورنا كلها ونعتصم برب العباد؛ لأن التوكل له مقام جليل القدر، عظيم الآثر، أمر الله عباده به، وحثهم عليه، في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وجعله لله سببًا لنيل محبته، وشرطًا للإيمان، فأنعم بمقام يحظى صاحبه بمحبة الرحمن، ويتحقق به، كمال الإيمان وضمن سبحانه لمن توكل ليه القيام بأمره، وكفايته همه حيث قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 49]، فأي عزيز هو سبحانه الذي لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه، (إن القلب كلما ازداد محبة لله ازداد في العبودية، لأن القلب فقير بالذات إلى الهل من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغانية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة، فالقلب لا يصح، ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة)[13].
فما من عمل ارتبط بالنواحي الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية... إلخ إلا وله جزاء ذكره الله ورسولهصلى الله عليه وسلم، وهذا له أثر عظيم في السلوك الأخلاقي فيتكون بذلك الدافع القوي إلى الالتزام بتلك الفضيلة من الأخلاق لاسيما إذا كان هذا الخلق هو التوكل على الله فهو كنز ثمين، ومكسب عظيم لا يقدره إلا من عرف حقيقته، وعمل بها، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، "فكل من فوض أمره ووثق بربه كفاه أعداءه فهو قادر على ايقاع الجزاء بهم"[14].
وقال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]
فينبغي التوكل على الله في الأمور كلها حتى ننال بذلك الجزاء والثواب، لأن التوكل كذلك وظيفة من وظائف القلب، وسلوك نفسي يقتضيه الإيمان الصحيح، قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، فهذا أمر من الله بالتوكل عليه وحده، وما من عبد توكل على الله إلا ونال مطلبه ومناه إن عاجلًا أو آجلًا، فها هما رجلا بني إسرائيل آمنا وأدركا أن التوكل على الله يعين على معارك القتال، وأنهما غذا دخلًا الأرض المقدسة متوكلين على الهل ينصرهم على عدوهم لا محالة حيث قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة: 23].
" فهذان الرجلان قد علما من سنته تعالى في نصره رسله وما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه السلام من قهر أعدائه، فبعد ترتيب الأسباب، وعدم الاعتماد عليها، فإنها بمعزل من التأثير وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير فإن كنتم مؤمنين مصدقين لوعده، فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتمًا"[15].
فهذا الموقف العظيم من الرجلين اجتمعت فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني على طريقة القرآن، فهل لنامن ذلك دروس مستفادة من دعوة إلى الالتجاء والاستسلام، وما فيها من المفاصلة، والحسم والتصميم لذلك، فالقرآن الكريم رتب للتوكل على الله نتائج وجزاءات يقينية من سلكه رشد ورسخ فيه جذور التوكل على الله وتمكن منه، فيثمر بذلك ثمارًا يانعة، ويعطي ظلالا باردة، وهذا ما فهمه السلف الصالح، وعملوا به رضي الله عنهم وأرضاهمن فأحبهم الله ورضى عنهم فحبه ورضوانه أمران عظيمان وفضل جزيل لا يقدر على فعله إلا رب رحيم حليم.
الهوامش:
[1] صحيح البخاري، كتاب الطب، حديث رقم (5705)، والفتح، كتاب الطب، باب 17، الرقاق، باب 50، ومسلم في الإيمان، في الجنة حديث (371-372) وفي الحج حديث 167.
[2] انظر: للرازي، مفاتيح الغيب، (9-10/ 104)
[3] أنظر: للمراغي، تفسير المراغي، (3/66)
[4] انظر للرازي، مفاتيح الغيب، مج 6، (11-12/ 147)
[5] أبو بكر الجزائري، أيسر التفاسير، (2/420)
[6] انظر: المراغي، تفسيره (9/102).
[7] سبق تخريجه، ص 112
[8] انظر: للمراغي، تفسيره (2/116)
[9] انظر: للرازي، مفاتيح الغيب (9-10/ 70)
[10] انظر: لابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق، المجلس العلمي ( المغرب، فاس بدون طبعة) (2/387).
[11] انظر: للرازي: مفاتيح الغيب، (7-8/19)
[12] انظر للمقدسي، مختر منهاج القاصدين، ص 349.
[13] انظر: لشيخ الإسلام ابن تيمية، العبودية، (بيروت: المكتب الإسلامي، طبعة 1399هـ)، ص 108.
[14] انظر: للمراغي، تفسيره، (2/102)
[15] انظر: لأبي حيان، البحر المحيط، (2/27)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.