الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد؛ فقد جعل الله محبته أعلى المحاب وأجلها؛ فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
قال ابن القيم: (وإذا كان العبدُ لا يكون من أهلِ الإيمانِ حتى يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه من نفسِه وأهلِه وولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين، ومحبته تبع لمحبةِ اللهِ، فما الظن بمحبته سبحانه؟! وهو سبحانه لم يخلقْ الجنَّ والإنسَ إلا لعبادتِه، التي تتضمنُ كمالَ تعظيمه والذلَّ له، ولأجلِ ذلك أرسلَ رسلَه، وأنزلَ كتبَه، وشرعَ شرائعَه، وعلى ذلك وضعَ الثواب والعقاب، وأسست الجنة والنار، وانقسمَ الناسُ إلى شقيٍّ وسعيدٍ.
وكما أنه سبحانه ليس كمثلِه شيء، فليس كمحبتِه وإجلالِه محبةٌ وإجلالٌ ومخافةٌ، فالمخلوق كلما خِفتَه استوحشتَ منه وهربتَ منه، والله سبحانه كلما خفتَه أَنَسْتَ به وفررتَ إليه، والمخلوقُ يخُاف ظلمُه وعدوانُه، والربُّ سبحانه إنما يخُاف عدلُه وقسطُه، وكذلك المحبة؛ فإنَّ محبة المخلوقِ إذا لم تكن للهِ فهي عذابٌ للمُحبِّ ووبالٌ عليه)[1].
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (أشدُّ حبًّا للهِ، حبًّا مطلقًا من كل موازنة، ومن كل قيدٍ، أشد حبًّا لله من كل حبٍّ يتجهون به إلى سواه، والتعبيرُ هنا بالحب تعبيرٌ جميلٌ، فوق أنه تعبيرٌ صادق، فالصلةُ بين المؤمنِ الحقِّ وبين اللهِ هي صلة الحب، صلة الوشيجةِ القلبيةِ، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدودِ بعاطفةِ الحبِّ المشرق الودود)[2].
وقال السعدي: (ما أحسن اتصال هذه الآيةِ بما قبلها، فإنه تعالى لما بيَّن وحدانيته وأدلتها القاطعة، وبراهينَها الساطعةَ الموصلةَ إلى علمِ اليقين، المزيلةَ لكل شكٍّ، ذكر هنا أن {ومِنَ النَّاسِ} مع هذا البيان التام من يتخذُ من المخلوقين أندادًا للهِ، أي: نظراء ومثلاء، يساويهم في اللهِ بالعبادةِ والمحبةِ، والتعظيمِ والطاعةِ.
فالمخلوقُ ليس ندًّا للهِ لأن اللهَ هو الخالقُ، وغيرُه مخلوقٌ، والربُّ الرازقُ ومن عداه مرزوقٌ، واللهُ هو الغني وأنتم الفقراءُ، وهو الكاملُ من كل الوجوه، والعبيدُ ناقصون من جميعِ الوجوه، واللهُ هو النافعُ الضار، والمخلوقُ ليس له من النفعِ والضر والأمرِ شيء، فعلم علمًا يقينًا بطلان قول من اتخذَ من دونِ اللهِ آلهةً وأندادًا، سواء كان ملكًا أو نبيًّا، أو صالحًا، صنمًا، أو غير ذلك.
وأن الله هو المستحقُّ للمحبةِ الكاملةِ، والذلِّ التام، فلهذا مدحَ اللهُ المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}؛ أي: من أهلِ الأندادِ لأندادِهم، لأنهم أخلصوا محبتَهم له، وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبتُه هي عينُ صلاحِ العبدِ وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحبِّ شيئًا، ومحبته عينُ شقاءِ العبدِ وفساده، وتشتت أمره)[3].
الهوامش:
([1]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن القيم، (2/ 196)، المحقق: محمد حامد الفقي، الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.