الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ إن من رحمة الله بعباده أنه أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم لينقذهم من الضلال إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام، وقد بَلَّغَ صلى الله عليه وسلم رسالةَ ربه على أكمل وجه، فما ترك خيرًا إلا ودلنا عليه، ولا شرَّا إلا وحذرنا منه، فالأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم والتمسك بها وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نها عنه وزجر سببُ نجاة العبد في الدنيا والآخرة، وسببٌ لفوزه برضا الله ومحبته، والتي هي غاية كل مؤمن موحد، لأنه عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته والخوف من عقابه والذل له، فهي عبادة تجمع غاية الحب له مع غاية الذل له.
ومن رحمته تعالى أنه يسَّر العبادة على خلقه، وجعل لهم أسبابًا ينالون بها محبته تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتدبر وفهم السلف - رحمهم الله – لها؛ لأمكنه معرفة هذه الأسباب والعمل بها، والحرص عليها، حتى يقوى إيمانُه وتزداد محبتُه لربه عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن أذكر هذه الأسباب بشيء من الإجمال والاختصار، أحب أن أنبه إلى أن الاستجابة لله ولرسوله وطاعته تعالى ورسوله والبعد عن معصيته تعالى ورسوله تجمع الأسباب الجالبة والمقوية لمحبته تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم كلها، ولكني أود أن أذكر هذه الأسباب كلًّا على حده، متكلمًا بما ييسره الله عن كل سبب بالشرح والتفصيل، مستشهدًا لذلك بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، منبهًا إلى أنني ربما لم أجمع هذه الأسباب جميعها ولكن حسبي أن اجتهدتُ في ذلك، فإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله، وإن أصبتُ فمن الله ولله الحمد من قبل ومن بعد.
هناك أسباب كثيرة تُستجلَب بها محبة الله تعالى؛ فمن ذلك:
1-معرفة الله جل شأنه:كلما تعرَّف العبدُ على مظاهر حبِّ ربه له، وسيطرت هذه المعرفة على مشاعره؛ انعكس ذلك على علاقته به سبحانه، فيزداد له حبًّا وشوقًا، وعندما يملأ هذا الحبُّ القلبَ ستكون له بلاشك ثمارٌ عظيمةٌ، تظهر في سلوك العبد وأعماله، هذه الثمار من الصعب الحصول عليها من أي شجرة أخرى غير شجرة الحب، فالحب يُخْرِجُ من القلب معانٍ للعبودية لا يُخْرِجُها غيره؛ يقول ابن تيمية: (فمن لا يحبُّ الشيءَ لا يمكن أن يحبَّ التقربَ إليه، إذ التقربُ إليه وسيلةٌ، ومحبةُ الوسيلةِ تبعٌ لمحبةِ المقصودِ)([1]).
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من المخوف لينال المحبة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]([2])، ونحصرها في تلك الأمور:
- معرفة نعم الله على عباده، التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}، وقد جُبِلَت القلوب على محبة من أحسن إليها، والحب على النعم من جملة الشكر للمنعم، ولهذا يُقال: إن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح.
-معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فمن عرف اللهَ أحبه، ومن أحب اللهَ أطاعه، ومن أطاع اللهَ أكرمه، ومن أكرمه اللهُ أسكنه في جواره، ومن أسكنه اللهُ في جواره فطوبى له.
- ومن أعظم أسباب المعرفة الخاصة: التفكير في ملكوت السماوات والأرض وبديع الخلق، وفي القرآن شيءٌ كثير من التذكير بآيات الله الدالة على عظمته وقدرته وجلاله وكماله وكبريائه، ورأفته ورحمته وبطشه وقهره وانتقامه، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكلما قويت معرفةُ العبدِ بالله قويت محبته له ومحبته لطاعته وحصلت له لذة العبادة.
- ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل معاملةُ الله بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى، فإن ذلك سببٌ لفضل الله على عبده وأن يمنحه محبته.
-ومن أعظم ما تُستجلب به المحبة كثرة ذكر الله تعالى، فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبذكر الله تطمئن القلوب، ومن علامة المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان.
- ومن أسباب محبة الله لعبده كثرة تلاوة القرآن الكريم بالتدبر والتفكر، ولاسيما الآيات المتضمنة لأسماء الله وصفاته وأفعاله الباهرة، ومحبة ذلك يستوجب به العبد محبة الله ومحبة الله له.
-ومن أسباب المحبة تَذَكُّر ما ورد في الكتاب والسنة من رؤية أهل الجنة لربهم وزيارتهم له واجتماعهم يوم المزيد؛ فإن ذلك يستجلب به المحبة لله تعالى([3]).
ولعلمه صلى الله عليه وسلم بربه ومعرفته بعظمته وألوهيته وجلاله وما أعده للطائعين من الخير وللعصاة الفاجرين من العقوبة، كان يُكْثِرُ من العبادة والطاعة، ويوصي أمته بذلك؛ فهو القائل صلى الله عليه وسلم: ((يا أمة محمد، واللهِ ما من أحدٌ أغير من اللهِ أن يزنِي عبدُه أو تزني أمتُه، واللهِ لو تعلمون ما أعلمُ لضحِكتُم قليلًا ولبكيتُم كثيرًا، ألا هل بَلَّغْتُ؟!)).
أجل والله؛ إن معرفة العبد بربه تعالى وعلمه به وبما أعده لمحبته وطائعيه، وما هيأه لأعدائه وأهل معصيته، يدفعه لطاعته ومحبته وتعلق القلب به، ويبعده عن كل ما يحول بينه وبين ذلك من متاعٍ ولهوٍّ وغير ذلك، لذا كان الأنبياء والمرسلون أعظم الناس محبةً لله وطاعة له، وكان الخليلان - عليهما السلام - إبراهيم ومحمد من بينهم أعظمهم حبًّا له تعالى، وأكثر الناس عبادة له تعالى، لكمال علمهما ومعرفتهما بالخالق عز وجل، وأعظم الأمة بالله أشدهم له محبة وعبادة.
والناس درجات ومراتب بعد الأنبياء في هذه المحبة والطاعة، كلٌّ بحسب علمه ومعرفته، لذا كان أعداؤه أقل الناس له محبة، وكان عباده المؤمنون أشدهم له حبًّا؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، لأنهم عرفوا ربهم واتبعوا هديه ورسوله صلى الله عليه وسلم ففازوا بالسعادة في الدنيا والآخرة.
2-التلذذ بالعبادة وسرعة المبادرة إليها:كلما ازداد حبُّ العبد لربه ازدادت مبادرته لطاعته واستمتاعه بذكره، وكان هذا الحب سببًّا في استخراج معاني الأنس والشوق إلى محبوبه الأعظم، والتعبير عنها من خلال ذكره ومناجاته.
هذه المعاني ما كانت لتخرج إلا إذا فُتح لها باب الحب، فالمحب يُقْبِلُ على محبوبه بسعادة، ويطيع أوامره برضى، لا تحركه لتلك الطاعة سياطُ الخوف من عقوبة عدم أدائه للعمل، بل يحركه ما حَرَّكَ موسى عليه السلام عندما قال لربه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، وكذلك ما جعل رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: ((أَرِحْنَا بها يا بلال))([4]).
إن هناك بالفعل سعادة حقيقية ومتعة وشعور باللذة والنعيم يجدها المحب في مناجاته وذكره وخلوته بربه، وهذا ما يُطلق عليه: "جنة الدنيا"، هذه الجنة من الصعب علينا أن ندخلها من غير باب المحبة، قال أحد الصالحين: (مساكين أهلِ الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبةُ اللهِ تعالى ومعرفتُه وذكرُه، وقال آخر: إنه لتَمُرُّ بي أوقاتٌ أقول: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ)([5]).
3-الشوق إلى الله:عندما يتمكن حبُّ الله من قلب العبد، فإن هذا من شأنه أن يجعله دومًا حريصًا على اغتنام أية فرصة تُتاح له فيها الخلوة به سبحانه وبذكره ومناجاته، وجمع قلبه معه، وشيئًا فشيئًا تُسْتَثَارُ كوامن الشوق إليه سبحانه، وتستبد بالقلب، وتلح عليه في طلب رؤيته، ليأتي العِلم فيخبره بأنه لا رؤية ولا لقاء لله في الحياة الدنيا، بل بعد الموت، فيزداد الشوق إلى هذا اللقاء؛ وأي لقاء؟!
لقاء المحبوب الأعظم الذي ناجاه لسنوات طويلة، وسكب الدمع في محرابه.
لقاء من دعاه في أوقات عصيبة فوجده منه قريبًا، ولدعائه مجيبًا.
لقاء من كفاه وحماه وأعانه على نفسه وعدوه.
لقاء من أعطاه وأكرمه وحفظه ورعاه وبكل بلاء حسن أبلاه.
يقول الحسن البصري: (إن أحباءَ اللهِ هم الذين ورثوا الحياةَ الطيبةَ، وذاقوا نعيمَها بما وصلوا إليه من مناجاِة حبيبِهم، وبما وجدوا من حلاوةٍ في قلوبِهم، لاسيما إذا خطرَ على بالِهم ذكر مشافهتِه وكشف ستور الحجبِ عنه في المقامِ الأمينِ والسرور، وأراهم جلالَه وأسمعَهم لذةَ كلامِه، ورَدَّ عليهم جوابَ ما ناجوه به أيام حياتهم)([6]).
فالشوق إلى الله إذًا ثمرة من ثمار تَمَكُّنِ حبه في قلب العبد، ويؤكد ابن رجب على ذلك بقوله: (الشوقُ إلى اللهِ درجةٌ عاليةٌ رفيعةٌ، تنشأُ من قوةِ محبةِ اللهِ عز وجل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسألُ اللهَ هذه الدرجة)([7])، ففي دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ إني أسألُك الرضى بعد القضاءِ، وبَرَدَ العيشِ بعد الموتِ، ولذةَ النظرِ إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، من غيرِ ضراء مضرة ولا فتنةٍ مضلة))([8])، فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربَّه الشوق إلى لقائه دون وجود أسباب ضاغطة عليه تدعوه لذلك مثل: ضراء الدنيا وأقدارها المؤلمة، أو بمعنى آخر أن يكون الشوق إلى الله ناشئًا عن محض المحبة.
جاء في الأثر أن الله - تبارك وتعالى - يقول: ((ألا قد طالَ شوقُ الأبرارِ إلى لقائي، وإني إليهم لأشد شوقًا، وما شوقُ المشتاقين إليَّ إلا بفضل شوقي إليهم، ألا من طَلَبَنِي وَجَدَنِي، ومن طَلَبَ غيري لم يَجِدْنِي، من ذا الذي أقبلَ عليَّ فلم أُقْبِلْ عليه؟! ومن ذا الذي دعاني فلم أُجِبْهُ؟! ومن ذا الذي سَأَلَنِي فلم أُعْطِه))([9]).
4-صلة الأرحام وأخصها برُّ الوالدين:إن صلة الرحم من أسباب تحصيل محبته سبحانه وتعالى للواصل بظاهر نصِّ الحديث، وإن قطعها من موانع حصول تلك المحبة بمفهوم مخالفة هذا الحديث، وما أوردنا من آياتٍ وأحاديث، وإن لم تصرح بلفظ المحبة، أدلةٌ صالحةٌ على ذلك.
وإن برَّ الوالدين أول المأمورات بعد توحيد الله تعالى، أو على الأكثر بعده وبعد الصلاة والزكاة؛ قال سبحانه: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 31-32]، وأن عُقُوقَهما أول المحذورات بعد الشرك.
وأن هذا البر هو السبب الثالث من أسباب تحصيل محبة الله عز وجل بعد الإيمان والصلاة على وقتها؛ وذلك بظاهر نصِّ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه، الذي جمع فيه بين الصلاة على وقتها وبرِّ الوالدين والجهاد، ثم إذا أضفنا حيث أحب الأعمال إيمانٌ بالله، يكون الإيمان بالله سابقًا على الثلاثة التي تضمنها حديث ابن مسعود شرعًا وعقلًا؛ لأن ثلاثتها تأتي بعد الإيمان شرعًا وعقلًا.
فإن قلتَ: جعل الحديثُ الآخرُ صلةَ الرحمِ بعد الإيمان بالله مباشرةً، ولم يفصل بينهما لا بالصلاة ولا بغيرها، قلتُ: معلومٌ من جملةِ الشرع أن الصلاة التي جاءت قبل برِّ الوالدين في حديث ابن مسعود لابد أن تسبق صلةَ الرحمِ لأنها سبقت برَّ الوالدين، وهما أول ذوي الأرحام وأمسهم بالمسلم، عدا أدلةٍ أخرى كثيرة.
5-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى:إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أبواب الخير في الدنيا والآخرة، في خاصَّة نفس المسلم وعامَّة الأمة المسلمة، وأنه لذلك أحد أخطر أسباب تحصيل محبة الله لعباده، وأن مرتبته في الأسباب هي الثالثة مع الجهاد في سبيل الله تعالى، وبعد الإيمان وصلة الأرحام، وأنه مناطُ التمكين للأمة في الأرض.
والجهاد جامعٌ لكل أسباب محبة اللهَ تعالى عبيدَه؛ من اتباعٍ وإحسانٍ وتقوى وإقساطٍ، وتطهُّرٍ وتوَّابيَّةٍ، وصبرٍ وتوكُّلٍ، وذلَّةٍ على المؤمنين وعزةٍ على الكافرين ... إلى آخر الأسباب كما سيأتي؛ إلا أن مرتبته في الأسباب الثالث بعد الصلاة لوقتها وبر الولدين؛ لظاهر نصِّ الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءٌ لا يتجزَّأ من الجهادِ، وأمرُ ونهيُ السلطان الجائر الظالم أفضل الجهاد؛ لأنه أفضل الأمر والنهي.
المحبة الصادقة لله عز وجل تدفع صاحبَها لبذل كل ما يملكه من أجل نيل رضا محبوبه، وليس ذلك فحسب، بل إنه يفعل ذلك بسعادة، وكل ما يتمناه أن تحوزَ هذه التضحيةُ على رضاه.
تأمل معي ما حدث من عبد الله بن جحش ليلة غزوة أحد، عندما قال لسعد بن أبي وقاص: (ألا تأتي ندعوا اللهَ تعالى، فَخَلَوا في ناحيةٍ، فدعا سعدٌ، فقال: يا ربِّ إذا لقينا العدوَّ غدًا فَلَقِّني رجلًا شديدًا بأسُه، شديدًا حردُه، أقاتلُه ويقاتلُني، ثم ارزقني الظفرَ عليه حتى أقتلَه فآخذ سلبَه ...
فأمَّن عبدُ الله، ثم قال: اللهمَّ ارزقني غدًا رجلًا شديدًا بأسُه، شديدًا حردُه، أقاتلُه ويقاتلُني، ثم يأخذُني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غدًا قلتَ لي: يا عبد اللهِ فيمَ جُدعَ أنفُك وأذنُك؟ فأقول: فيك وفي رسولِك، فتقول: صَدَقْتَ، قال سعد: كانت دعوتُه خيرًا من دعوتي، فلقد رأيتُه آخرَ النهارِ، وإن أنفَه وأذنَه لمعلق في خيط)([10])، فالتضحية والجهاد من أعظم دلائل المحبة.
([4]) رواه أحمد في مسنده، (23137)، وأبو داود، (4985)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2/ 715).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.