إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فإن تحقيق التوكل على الله يحقق للمتوكل الرضا والصبر، فهما أمران متلازمان، فالرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان وهو طيب نفسي للإنسان بما يصيبه، أو يفوته مع عدم التغير.
والصبر قوة مقاومة الأحوال والآلام الحسية، والعقلية – وهو حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش[1].
والرضا والصبر من ثمار التوكل على الله فهما يجنبان المؤمن الأزمات النفسية والجسدية، لأن التوكل على الله فيه عدة، وقوة معنوية ونفسية، والإنسان تمر في حياته اليومية الكثير من المصائب، والشدائد وخذلان المخلوقين له وإن استسلم لها المؤمن لأصبح في كآبة وضعف، وخور، وهوان، ولكن المخرج منها هو التسليم لأمر الله والرضا والصبر بما قدره الله عز وجل، فهما أمران شرعيان من أسس الإسلام، وقواعده، فالمؤمن يعمل ويكد ويلازم عمله الصبر إلى أن يفرغ منه.
قال تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58، 59].
نعم جزاء العاملين بطعة الله والصابرين على أذى المشركين في الدنيا، غرف يثويهما الله فيها، على ما كانوا يلقون من أذى المشركين، وعلى العمل بطاعة لله، وما يرضيه، وجهاد أعدائه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في أرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم ثقة منهم بأن الله معل كلمته، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق فل يفوتهم[2].
وهناك معنى آخر للآية تدل عليه وهو " فصبرهم على عبادة الله، يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك، والمحاربة العظيمة للشيطان، الذي يدعوهم إلى الإخلال بشيء من ذلك، وتوكلهم، يقتضي شدة اعتمادهم على الله، وحسن ظنهم به، أن يحقق ما عزموا عليه من الأعمال ويكملها، ونص على التوكل، وإن كان داخلا في الصبر، لأنه يحتاج إليه في كل فعل وترك مأمور به، ولا يتم إلا به"[3].
فتبارك الرحمن الذي تكفل بالأرزاق لكل من القوي والعاجز، فالآية دليل على التزام الصبر حتى تمام العمل المراد على أكمل وجه.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]
فيستلزم من الآية ابتغاء مرضاة الله في كل عمل فالمؤمن، يبيع نفسه كلها لله لا يرجو من وراء أدائه وبيعه غاية إلا مرضاة الله قال: " أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في صهيب ابن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوههم، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة، ونفقة فأقام بمكمة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك يا أبا يحيى، فقل له صهيب: وبيعك، فلا تتحسر، قال صهيب: ماذا لي؟ فقال: قد أنزل الله فيك، وقرأ هذه الآية"[4].
فالآية الكريمة ترسم صورة نموذج من الناس، ومن النفس المؤمنة التي خرجت تاركة كل شيءوراءها طالبة، وجه ربها الكريم متوكلة عليه مستعينة به، وإذا بالشر يدفع، والخير يهبط من السماء العلية، فالمؤمن يرضى ويصبر لما قدره الله تعالى عليه من خير أو شر، فإن قدر له الشر فهو أمر على خلاف مراده ومحبته وهذا كمن يعمل ويظن أنه لم يكسب من عمله شيئًا.
وإن قدر له الخير فهو أمر جاء على مراد العبد محبته، وهذا كمن يعمل، ويحصل على مراده ومبتغاه من عمله.
فالرضا ثمرة من شجر التوكل " فمن وَكَلَ أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له، ويختاره، فقد حقق التوكل عليه، ولذلك كان الحسنُ[5] والفضيلُ[6] وغيرهما يُفسِّرون التوكل على الله بالرِّضا.
قال ابنُ أبي الدنيا[7]: بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكلُ على ثلاثِ درجاتٍ: أولها: تركُ الشِّكاية، والثانية: الرضا، والثالثة: المحبة، فترك الشكاية درجة الصبر، والرضا سكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من الأولى، والمحبَّةُ أنْ يكون حُبُّه لما يصنع الله به"[8].
فلا يعتقد المؤمن أن عمله في الدنيا هباءًا ولو للحظة، ولكن إن أنعمه الله تعالى وشكر وحمد فهو الخير كله، وإن قدر عليه رزقه وشكر وحمد فهو الخير كله وهذا مصداقًا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي (عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء كشر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"[9].
هذا حال المؤمن الصابر المتوكل أو حال من يقدم صبره على عمله، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11]، "فسياق الآية دليل على أن من العبادة الصبر على المحنة، وترك اليأس، والقنوط، وملازمة العمل الصالح في كل حال"[10].
فالصبر والرضا جعل الله فيهما راحات نفسية وروحية، وهما دليلان على حسن ظن العبد بربه، والرضا مظهر من مظاهر صلاح العبد وتقواه، والصبر جواد لا يكبو وحصنا حصينًا لا يهزم للمؤمن.
والصبر والرضا آخية المؤمن التي إليها يرجع، والمحن التي نعيشها اليوم تحتاج إلى أن رجع إلى ديننا ونوحد بذلك صفوفنا، ونعد العدة، ونصبر ونعمل بيد واحدة مخلصين لله متوكلين عليه، والرضا والصبر علامة التوكل على الله وشكر لله، ومحبة الله وطريق إلى التسليم لله بعزة وقوة.
الهوامش:
[1] انظر: للجرجاني، التعريفات، ص 111، وللمناوي لتوقيفات، ص 178، 212.
[2] انظر الطبري، جامع البيان، (6/85)
[3] السعدي، تيسير الكريم الرحمن...، (4/68)
[4] البغوي، معالم التنزيل، (1/267)
[5] الحسن بن أحمد بن ابي شعيب أبو مسلم الحراني، مات سنة 250هـ، أو الحسن بن خلف ابن شاذان الواسطي، مات سنة 246هـ، انظر: تهذيب التهذيب، (2/237، 2042)
[6] فضيل بن عبد الوهاب بن إبراهيم الغطفاني أبو محمد القناد، انظر: تهذيب التهذيب، (6/419)
[7] عبد الله بن محمد بن عبي أبو بكر القرشي الأموي، صاحب التصانيف، ولد سنة 208هـ، وتوفى سنة 281هـ، انظر: تذكرة الحفاظ، (2/677)
[8] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص 441
[9] مسلم (4/2295)، (2999)، كتاب الزهد والرقائق.
[10] سعيد حوى، الأساس في التفسير (5/2537)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.