إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛...
تعريف الشكر عند ابن القيم رحمه الله:
الشكر: اسم لمعرفة النعمة. لأنها السبيل إلى معرفة المنعم. ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن: شكرا.
فمعرفة النعمة: ركن من أركان الشكر. لا أنها جملة الشكر، كما تقدم: أنه الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له ومحبته، والعمل بما يرضيه فيها. لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم، الذي يستحيل وجود الشكر بدونه: جعل أحدهما اسما للآخر.
قوله: لأنه السبيل إلى معرفة المنعم.
يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها.
وهذا من جهة معرفة كونها نعمة، لا من أي جهة عرفها بها. ومتى عرف المنعم أحبه. وجد في طلبه. فإن من عرف الله أحبه لا محالة. ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة.
وعلى هذا: يكون قوله: الشكر اسم لمعرفة النعمة. مستلزما لمعرفة المنعم. ومعرفته تستلزم محبته. ومحبته تستلزم شكره.
فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ. ونبه على سائرها باللزوم. وهذا من أحسن اختصاره. وكمال معرفته وتصوره، قدس الله روحه.
قال: ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة. ثم قبول النعمة. ثم الثناء بها. وهو أيضا من سبل العامة.
أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن، ومشاهدتها وتمييزها.
فمعرفتها: تحصيلها ذهنا، كما حصلت له خارجا. إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري. فلا يصح من هذا الشكر.
قوله: ثم قبول النعمة.
قبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها. وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، ولا بذل ثمن. بل يرى نفسه فيها كالطفيلي. فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة.
قوله: ثم الثناء بها.
الثناء على المنعم، المتعلق بالنعمة نوعان: عام، وخاص. فالعام: وصفه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء، ونحو ذلك.
والخاص: التحدث بنعمته، والإخبار بوصولها إليه من جهته. كما قال تعالى {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] .
وفي هذا التحديث المأمور به قولان.
أحدهما: أنه ذكر النعمة، والإخبار بها. وقوله: أنعم الله علي بكذا وكذا. قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتم، والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة.
والتحدث بنعمة الله شكر. كما في حديث جابر مرفوعا «من صنع إليه معروف فليجز به. فإن لم يجد ما يجزي به فليثن. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره. وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» [1].
الفرق بين الشكر والصبر:
واعلم أن الشكر والصبر جماع الإيمان، كما روي في الخبر، وقد روي: " الصبر نصف الإيمان".
لكن قد قال بعض المتصوفة: الشكر أفضل من الصبر، فإن الصبر حبس النفس على مسالمة البلاء، والشكر أن لا تلتفت إلى البلاء، بل يراه من النعماء، فمن صبر فقد ترك إظهار الجزع، ومن شكر فقد تجاوز إلى إظهار السرور بما جزع له الصابر، وأيضًا فالصبر هو ترك للعمل السئ، والشكر إظهار الفعل الحسن، وليس من ترك قبيحًا كمن فعل حسنًا وجميلًا، وقابل تعالى الشكر بالمجازاة، فعل الحبيب بحبيبه، فقال تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]
وقابل الصبر بالأجر؛ فعل المستأجر بأجيره، فقال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وأين الأجر وإن كثر حتى صار بغير حساب من الجزاء، ثم قال في الصبر: (يُوَفَّى) ، فلم يسم فاعله، وقال في الشكر: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] فانظر إلى هذا اللطف في المقال قبل الانتهاء إلى الفعال ولم يذكر من أنبيائه بالشكر إلا اثنين كما تقدم ووصف جماعتهم بالصبر فقال: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85] وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] فجعل الصبر مبدأ والشكر منتهى؛ ولأن الصبر محمول عليه قهرًا والشكر مؤدى تطوعًا.[2]
وكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر.
وإذا كان الصبر مأموراً به فأداؤه هو الشكر.
وحقيقة الشكر إنما تلتئم من الصبر والإرادة والفعل.
وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر، ولكن اندرج شكره في صبره، فكان الحكم للصبر، كما اندرج صبر الشكور في شكره، فكان الحكم للشكر.
ومقامات الإيمان لا تعدم ولا تزول بالتنقل فيها، بل تندرج ويطوى الأدنى في الأعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في الرضا، ويندرج الرضا في التفويض، لا أن ذلك يزول والمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر، سواء كان محبوباً أو مكروهاً.
فالفقر مثلاً يتعلق به الصبر، وهو أخص به؛ لما فيه من الكراهة.
والغنى يتعلق به الشكر؛ لما فيه من النعمة، فمن غلب شهود نعمته في الفقر وتلذذ به عده نعمة يشكر عليها، ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق عده بليّة يصبر عليها، وعكسه الغنى.
والله تبارك وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وعد كل ذلك ابتلاء فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35].
والله سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار.
وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، والعافية والبلاء.
والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والنعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، وأذى الخلق له، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني عنهما طرفة عين.
والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الطعام والشراب أيهما أفضل؟ وكالسؤال عن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل؟
فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر، والمحرم لا يترك إلا بصبر وشكر.
وأما المقدور الذي يقدَّر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.
والله عزَّ وجلَّ امتحن كل عبد بنفسه وهواه، وأوجب عليه جهادها في الله، فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به، وتصبر عن الهوى المنهي عنه، فلا ينفك العبد عنهما غنياً أو فقيراً، معافى أو مبتلى.
والله سبحانه لم يفضل أحداً بالفقر والغنى، كما لم يفضل أحداً بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، «قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، (قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» أخرجه أحمد[3].
والناس من آدم، وآدم خلق من تراب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والتقوى مبنية على أصلين:
الصبر .. والشكر .. وكل من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فأتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله هو الأفضل.
فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.
والفقراء وإن كانوا يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فهذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة، وإن سبقوهم بالدخول إلى الجنة.
فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل الجنة كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم[4].
وقد جمع الله سبحانه لرسوله بين المقامين: الصبر والشكر على أتم الوجوه، فكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين.
فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه.
فكان - صلى الله عليه وسلم - أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه عزَّ وجلَّ كمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين.
فصلوات الله وسلامه عليه عدد المخلوقات والذرات والأنفاس.
وقد جعل الله نبيه غنياً شاكراً بعد أن كان فقيراً صابراً كما قال له سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8].[5]
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى- الشّكر يتضمّن الصّبر على الطّاعة، والصّبر عن المعصية وقال بعض الأئمّة: الصّبر يستلزم الشّكر ولا يتمّ إلّا به، وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر. فمن كان في نعمة ففرضه الشّكر، والصّبر[6] .
أمّا الشّكر فواضح، وأمّا الصّبر فعن المعصية، ومن كان في بليّة ففرضه الصّبر والشّكر، أمّا الصّبر فواضح، وأمّا الشّكر فالقيام بحقّ الله في تلك البليّة، فإنّ لله على العبد عبوديّة في البلاء، كما له عليه عبوديّة في النّعماء[7].
الهوامش:
[1] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ص2/241
[2] الذريعة إلى مكارم الشريعة، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى ، ص200
[3] أخرجه أحمد في مسنده، حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (23489)، ص 38/474، انظر السلسله الصحيحة رقم (2700).
[4] أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1827).
[5] موسوعة فقه القلوب، محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري، ص 2/1964-1966
[6] ففرضه الشكر والصبر: أي الواجب عليه الشكر والصبر
[7] الفتح (11/ 311) .
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.