الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ أنكر العلماءُ المحققون هذه التوسلات البدعية، وحذَّروا منها أشد التحذير وبيَّنوا بطلانها وفنَّدوا شبهات مجوزيها، وأن الأدلة التي احتجَّ بها المجيزون لها؛ إما صحيحة ولكن لا تدل على ما ذهبوا إليه من جواز التوسل البدعي، وإما غير صحيحة كضعيف أو موضوع، فلا حجَّة لهم في ذلك([1]).
وفيما يلي نقل بعض أقوال الشافعية في إنكار التوسلات المبتدعة:
قال الشيخ أحمد سوركتي - رحمه الله -: (وأما عدُّنا الاستشفاعَ بالأمواتِ والتوسلَ بهم من المنكرات، فلكون ذلك لم يَرِدْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من خلفائِه الراشدين، ولا عن أحدٍ من الأئمة المجتهدين، لا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره، أي: لكون ذلك من المُحدَثات في الدين، وكلُّ محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة فيه ضلالة، وكل ضلالة في النار، وقد قال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ))([2])، أي: باطل مردود.
وقد رُوي في جواز ذلك أحاديث وآثار لم يصح منها شيءٌ؛ كحديث الأعمى([3])، وحديث توسل آدم صلى الله عليه وسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم ([4])، وحديث: ((إذا كانت لكُم إلى اللهِ حاجة فاسألوا اللهَ بجاهي))([5])، وحديث: ((اللهمَّ إني أسألُك بحقِّ السائلين عليك ...))([6])، فإن ذلك كله لم يصحْ منه شيءٌ، وما صحَّ منه في الجملة فهو من باب التوسل بالأعمال لا بالأشخاص.
وكذلك حديث: ((إذا سألتُم اللهَ فاسألوه بجاهِي فإنَّ جاهي عندَ اللهِ عظيمٌ)) كذب موضوع([7])، وقد نسب الكاذبون جوازَ ذلك إلى الإمامِ مالك، وهو كذب، فمن أراد أن يتوسلَ إلى رضاءِ اللهِ فليتوسل بطاعةِ أوامر اللهِ، واتباع رسولِه صلى الله عليه وسلم فيما أمرَ به وفيما نهى عنه، لا باتباعِ الأهواءِ والتعبد بما لم يأذنْ به الله)([8]).
وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي - رحمه الله - في "فصل في حقيقة الاستغاثة وحقيقة التوسل والفرق بينهما"، قال: (الاستغاثة هي: أن يسألَ المستغِيثُ المُسْتَغَاث به مباشرةً، كأن يقول: يا رسول اللهِ نجني من الغرقِ، أو يا عبد القادر اكشفْ عني هذا الضُّر، أو نحو ذلك من الألفاظ ... ولا يبتدئ بندائِه للهِ في دعائِه، وأما التوسل فهو أن يسألَ اللهَ أولًا ويجعل المتوسلَ به كشفيعٍ له، مثل أن يقول: اللهمَّ إني أسألك وأتوسلُ إليك بنبيك الكريم أن تعطني ولدًا وترزقني مالًا، أو تعافني من هذا المرض أو نحو ذلك.
فمن أجلِ ذلك الفرق كانت الاستغاثةُ شركًا أكبر، وكان التوسلُ بدعةً فقط، ولا يغرنَّك كثرةُ المنجذبين للتوسلِ من متأخري فقهاء المذهب، فإن الحجةَ ليست في رأي فلان، وإنما هي في كتابِ اللهِ وسنةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم الصحيحة والحسنة؛ لقوله تعالى في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
وسبق حديث العرباض بن سارية: ((عليكُم بسنتِي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عضُّوا عليه بالنواجذِ، وإياكم ومُحْدَثَات الأمور))، ولا يقول من لا يفهم ما يقول: إن هذا التوسلَ المخترعَ كان من هدي الرسولِ صلى الله عليه وسلم أو من هدي أصحابِه، بل لا يشك فقيهٌ أنه من المحدثات، وكلُّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)([9]).
وقال أيضًا في بيان التوسل الممنوع: (هو التوسلُ بعملٍ يخالفُ الكتابَ والسنةَ، كالتوسلِ بذوات المخلوقين الصالحين من الأنبياءِ والملائكةِ والأولياءِ، أو الأمكنة الفاضلة كمكةَ والمشعرِ، أو بجاهِ الأنبياءِ والصالحين، أو بحقِّهم كأن يقول في دعائِه: اللهمَّ إني أسألُك بالنبي العظيم أو بجبريل، أو بالولي، أو بجاهِ الرسولِ، أو بجاهِ الصالحين أن تغفرَ لي ذنوبي وتشفني من مرضي، أو تقضي حاجتي، أو بنحو ذلك.
أو يُقْسِمُ بهم؛ كأن يقول: اللهمَّ إني أُقْسِمُ عليك بالرسولِ أو بالصالحِ الفلاني أن تقضيَ حاجتِي أو تشفيَ مرضي، فهذه الأنواعُ كلُّها وما شابهها مما خرج عن نطاقِ التوسلِ المشروعِ السالفِ الذكرِ يكون من التوسل الممنوع.
وخلاصةُ هذه التوسلات أقسامٌ ثلاث: 1- توسلٌ بالذات، 2- توسلٌ بالجاه والحرمة، 3- توسلٌ بالإقسامِ على اللهِ بالتوسل به، وكل هذه الأنواع من التوسلات لم يُؤْثَرْ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابةِ ولا تابعيهم ولا أحدٍ من علماءِ السلفِ، ولا أحدٍ من الأئمةِ وأضرابهم من الفقهاء والمجتهدين والمحدثين وأجلاء المفسرين.
وإنما حدثَ التوسلُ المبتدع في القرونِ الوسطى بأشخاصِ الأنبياءِ والصالحين المتقين، شاعَ هذا حتى صارَ كثيرٌ من الناسِ يدعون أصحابَ القبورِ في حاجاتِهم مع اللهِ تعالى، أو يدعونهم من دون اللهِ تعالى، وهذا شركٌ لأنه دعاء، و((الدعاءُ هو العبادة)) كما قال صلى الله عليه وسلم([10])، والله تعالى يقول: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18])([11]).
بقي أن يُقال هنا: إن من الأدلة التي يرددها كثيرًا مجوزو التوسل البدعي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، ففسروا الوسيلة هنا بالتوسل بذوات الأنبياء والإقسام على الله تعالى بشيء من مخلوقاته!!
الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال:
ليس المقصود بالوسيلة في هذه الآية الكريمة التوسل بذوات الأنبياء والصالحين والإقسام على الله تعالى بشيءٍ من مخلوقاته، فإن هذا تفسيرٌ باطل عاطل عن دليل، مخالفٌ لمراد الشارع ولما كان عليه السلف الصالح في فهم هذه الآية.
بل المراد بالوسيلة التي أمر اللهُ عبادَه المؤمنين بابتغائها إليه، وأخبرَ عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]؛ هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخلُ في ذلك، سواء كان محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسولُ فأمر به أَمْرَ إيجاب أو استحباب.
وأصل ذلك الإيمان بما جاءَ به الرسولُ، فجماعُ الوسيلةِ التي أمرَ اللهُ الخلقَ بابتغائِها هو التوسلُ إليه باتباعِ ما جاءَ به الرسولُ، فجماعُ الوسيلةِ التي أمرَ اللهُ الخلقَ بابتغائِها هو التوسلُ إليه باتباعِ ما جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، ولا وسيلةَ لأحدٍ إلى اللهِ إلا بذلك([12]).
فهذا المعنى هو الذي فهمه سلفُ هذه الأمة واتفقَ عليه مفسروا أهلِ السنة، ولا خلاف بينهم في ذلك، نقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال: (أي القربة، وكذا قال مجاهدُ، وعطاء، وأبو وائل، والحسنُ، وقتادة، وعبدُ الله بن كثير، والسدي، وابن زيد، وغيرُ واحدٍ، وقال قتادة: أي تقرَّبوا إليه بطاعتِه والعمل بما يرضيه)، ثم قال ابن كثير: (وهذا الذي قالَه هؤلاء الأئمةُ لا خلافَ بين المفسرين فيه)([13]).
وقال الشيخ أحمد سوركتي رحمه الله - وهو من الشافعية المتأخرين -: (وأما التوسلُ والشفاعةُ فقد يُسْتَعْمَلان في معانٍ؛ منها: التقربُ إلى اللهِ والتوسلُ إلى مرضاتِه بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ منهياته، والجهادِ في سبيله، والتبتلِ إليه بالدعاءِ وأنواعِ العبادات، مع الخوفِ من عذابِه والطمعِ في رحمتِه، وهذا هو التوسلُ المأمورُ به في قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، كما هو مفادُ جميعِ التفاسير المشهورةِ المعتبرة.
ويفسره الآيةُ الأخرى التي في سورةِ الإسراء، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56-57]، فبيَّن تعالى في هذه الآيةِ أن الذين لا يملكون كشفَ الضرِّ عمن يدعونهم ولا تحويلًا هم أولئك الذين يدعون، يبتغون إلى ربِّهم الوسيلةَ بالدعاءِ والرجاءِ في رحمتِه والخوف من عذابِه، وقد نصَّ المفسرون على أن المرادَ بذلك هم الأنبياء كعيسى وعُزَير([14])، فغيرُهم من بابِ الأولى لا يملكون لأنفسِهم ولا لغيرِهم شيئًا.
وهذا المعنى هو الذي فهمَه الرسولُ وأصحابُه من الآيةِ على ما يظهرُ، واتبعهم على ذلك أئمةُ السنةِ والجماعةِ، بدليلِ أنه لم يُنقلْ عن أحدٍ منهم أنه توسل في أمرٍ بالإقسامِ على اللهِ بحقِّ شيءٍ من مخلوقاته، بل جميعُهم كانوا يبتغون إلى اللهِ الوسيلةَ بطاعتِه ودعائِه واستغفارِه فقط، ولو فهموا الآيةَ بغيرِ هذا لما تأخروا عن طاعةِ أمرِه، ولو فعلوا لنُقِلَ إلينا كما نُقِلَ غيرُه من الأعمالِ من طريقِ الثقات، وما نُسِبَ إليهم غيرَ ذلك فغيرُ ثابتٍ عندَ الحفَّاظ، بل هو من وضعِ بعضِ الكاذبين)([15]).
وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي - رحمه الله -: (والتفسيرُ بأن الوسيلةَ هي التوسلُ بذوات الأنبياءِ والصالحين، تفسيرٌ باطلٌ وحجةٌ داحضةٌ، بل المفسرون المحققون يقولون بأن التوسلَ في الآيةِ معناها التوسلُ بالأعمالِ الصالحةِ، ليراجع القارئُ أي تفسيرٍ أرادَ من تفاسير القدماء والمحدثين([16]))([17]).
إذا تبيَّن بطلان تفسير القبوريين لمعنى الوسيلة في الآية السابقة، وظهرت مخالفته لفهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين، فاعلم أن مجوزي التوسل البدعي لا يزالون يحاولون أن يبرروا بدعتهم ببعض حكايات نسبوها إلى بعض أئمة الإسلام المعروفين بالاتباع ونبذ الابتداع، كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى، قال الكوثري: (وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في أوائل "تاريخ الخطيب" بسند صحيح)([18]).
الجواب عن هذا أن يُقال:
هذه الحكاية باطلة ومكذوبة ومخالفة لما كان عليه الإمام الشافعي - رحمه الله - نفسه، وقد تولَّى بيانَ كذبِها وبطلانِها سندًا ومعنى العلامةُ المحدث الألباني - رحمه الله -، وهاك نصُّ كلامه، قال: (هذا القول من مبالغاته - أي الكوثري -، بل مغالطاته، فإنه يشيرُ بذلك إلى ما أخرجه الخطيب (1/123) من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم، قال: نبأنا علي بن ميمون، قال: سمعتُ الشافعيَّ يقولُ: (إني لأتبرَّكُ بأبي حنيفة وأجيءُ إلى قبرِه في كلِّ يومٍ - يعني زائرًا- فإذا عَرَضَتْ لي حاجةٌ صلَّيتُ ركعتين، وجئتُ إلى قبره، وسألتُ اللهَ تعالى الحاجةَ عنده، فما تبعدُ عني حتى تُقضى).
فهذه روايةٌ ضعيفةٌ بل باطلةٌ، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف، وليس له ذكرٌ في شيء من كتبِ الرجال، ويُحتمل أن ميمون هو "عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي"، وقد ترجمه الخطيب (12/226)، وذكرَ أنه بخاريٌّ قَدِمَ بغدادَ حاجًّا سنةَ (341هـ) ولم يذكرْ فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهولُ الحال، ويبعدُ أن يكونَ هو هذا، إذ أن وفاةَ شيخِه علي بن ميمون سنة (247هـ) على أكثر الأقوال، فبين وفاتيهما نحو مائة سنة، فيبعد أن يكونَ قد أدركه.
وعلى كلِّ حالٍ فهي روايةٌ ضعيفةٌ، لا يقومُ على صحتِها دليلٌ، وقد ذكرَ شيخُ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" معنى هذه الرواية ثم أثبت بطلانها فقال: (هذا كذبٌ معلومٌ كذبُه بالاضطرارِ عندَ منْ له معرفةٌ بالنقلِ، فالشافعيُّ لما قَدِمَ بغدادَ لم يكنْ ببغداد قبرٌ يُنتاب للدعاءِ عنده البتة، بل ولم يكنْ هذا على عهدِ الشافعيِّ معروفًا، وقد رأى الشافعيُّ بالحجازِ واليمن والشامِ والعراق ومصرَ من قبورِ الأنبياءِ والصحابةِ والتابعين من كان أصحابُها عنده وعند المسلمين أفضلَ من أبِي حنيفة وأمثالِه من العلماءِ، فما باله لم يتوخَّ الدعاءَ إلا عنده؟!
ثم إنَّ أصحابَ أبي حنيفة الذين أدركوه؛ مثل: أبي يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد وطبقتهم، لم يكونوا يتحرون الدعاءَ لا عند أبي حنيفة ولا غيرِه، ثم قد تقدمَ عن الشافعي ما هو ثابتٌ في كتابِه من كراهةِ تعظيمِ قبورِ المخلوقين خشيةَ الفتنةِ بها([19])، وإنما يضعُ مثلَ هذه الحكايات من يقلَّ علمُه ودينُه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهولٍ لا يُعرف)([20]))([21]).
([3]) وهو ما رواه عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -: ((أن رجلًا ضريرَ البصرِ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادعُ اللهَ أن يعافيني، قال: إن شئتَ دعوتُ لك وإن شئتَ أخرتُ ذاك فهو خير، وفي رواية: إن شئتَ صبرتَ فهو خير لك، فقال: ادعُه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءَه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهمَّ إنِّي أسألُك وأتوجهُ إليك بنبيك محمدٍ نبي الرحمةِ، يا محمد إني توجهتُ بكَ إلى ربِّي في حاجتِي هذه فتُقضى لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه، قال: ففعلَ الرجلُ فبرأ))، رواه أحمد في مسنده، (4/138)، والترمذي، كتاب الدعوات، (119)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة، (1385)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، مؤسسة الكتب الثقافية، ص(204، 205)، وابن خزيمة في صحيحه، (1219)، والحاكم في المستدرك، ط/دار الكتب العلمية، (1/458، 707)، والبيهقي في دلائل النبوة، (6/166)، من طريق شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عنه به.
وقد اختلف العلماءُ في تصحيح هذ الحديث، فصحَّحه جمعٌ من الأئمة، منهم: الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، والذهبي، والألباني، وضعَّفه الآخرون كصاحب كتاب "صيانة الإنسان" و" تطهير الجنان"؛ وذلك لاختلافهم في "أبي جعفر" هل هو الخطمي المدني، أو الرازي التميمي مولاهم؟ لكن الراجح أنه الخطمي، قال: (قلتُ: ولكن هذا مدفوعٌ بأن الصواب أنه الخطمي نفسه، وهكذا نسبه أحمد في رواية (4/138) وسماه في أخرى: (أبا جعفر المدني) وكذلك سماه الحاكم، والخطمي هذا لا الرازي هو المدني، وقد ورد هكذا في المعجم الصغير للطبراني، وفي طبعة بولاق من سنن الترمذي أيضًا، ويؤكد ذلك بشكل قاطع أن الخطمي هذا هو الذي يروي عن عمارة بن خزيمة، ويروي عنه شعبة كما في إسناده هنا، وهو صدوق، وعلى هذا فالإسناد جيد لا شبهة فيه)، التوسل أنواعه وأحكامه، هامش ص(69).
وعلى الرغم من ذلك فإن الحديث لا يدل على ما ذهب إليه أهلُ البدع من جواز التوسل بالذات والجاه ونحوه، وإنما المقصود هو توسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلَّ على ذلك الحديث نفسه من وجوه كثيرة؛ منها:
أولًا: أن الأعمى إنما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: (ادعُ اللهَ أن يعافيني)، فهو قد توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله، بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته ويدعو ربه، بأن يقول مثلًا: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيرًا)، لكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة يذكر فيها اسم المتوسل به، بل لا بد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة وطلب الدعاء منه له.
ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتَ دعوتٌ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك)).
ثالثًا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع)، فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفَّى بما وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه؛ فإذن لابد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له فثبت المراد.
رابعًا: أن في الدعاء الذي علَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: ((اللهم فشفِّعه في))، وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه، إذ أن المعنى: اللهمَّ أقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيَّ، أي اقبل دعاءه في أن تَرُدَّ علي بصري والشفاعة لغة الدعاء.
خامسًا: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: ((وشفِّعني فيه))، أي اقبل شفاعتي - أي دعائي - في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم - أي دعاءه - في أن تَرُدَّ عليَّ بصري، هذا الذي لا يمكن أن يُفهم من هذه الجملة سواه.
سادسًا: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر اللهُ ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعادَ اللهُ عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
التوسل أنواعه وأحكامه، الألباني، ص(70-76)، باختصار، وانظر: تلخيص كتاب الاستغاثة، ابن تيمية، (1/264-269)، والعقد الثمين في بيان مسائل الدين، السويدي، رسالة الماجستير، ص(471-474)، وهذه مفاهيمنا، صالح آل الشيخ، ص(37).
([5]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (حديثٌ باطلٌ لم يروِه أحدٌ من أهلِ العلمِ، ولاهو في شيء من كتبِ الحديث)، مجموع الفتاوى، (1/346)، وانظر: التوسل، الألباني، ص(115).
([6]) رواه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة، (778)، وأحمد في مسنده، (3/21)، وغيرهما، وهو ضعيف، قد ضعفه جماعةٌ كثيرون من الحفَّاظ، منهم: الحافظ المنذري، الترغيب والترهيب، (2/305)، دار الكتب العلمية، والإمام النووي، الأذكار، ص(72-73)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (1/288)، والحافظ البوصيري، مصباح الزجاجة، (2/524).
قال الشيخ الألباني - بعد أن أطال الكلام في بيان ضعف هذا الحديث - قال: (وجملةُ القول: أن الحديث ضعيفٌ من طريقين، وأحدُهما أشد ضعفًا من الآخر، وقد ضعَّفه البوصيري والمنذري وغيرهما من الأئمة، ومن حسَّنه فقد وَهِمَ أو تساهل)، السلسلة الضعيفة، (1/82-98)، رقم: (24)، وانظر أيضًا: التوسل أنواعه أحكامه، له، ص(92-96).
وقال شيخ الإسلام: (ولفظُه لا حجةَ فيه، فإن حقَّ السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حقٌّ أحقَّه اللهُ تعالى على نفسِه الكريمةِ بوعده الصادقِ باتفاقِ أهلِ العلم، وبإيجابه على نفسِه في أحد أقوالهم ... وهذا بمنزلةِ الثلاثةِ الذين سألوه في الغار بأعمالهم)، مجموع الفتاوى، (1/288)، وانظر: التوسل أنواعه وأحكامه، الألباني، ص(98-99).
([7]) قال شيخ الإسلام: (هذا الحديثُ كذبٌ، ليس في شيءٍ من كتبِ المسلمين التي يعتمدُ عليها أهلُ الحديث، ولا ذكره أحدٌ من أهلِ العلم بالحديث، مع أن جاهه صلى الله عليه وسلم أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالقِ ليس كجاهِ المخلوقِ عند المخلوقِ، فإنه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنِه، والمخلوقُ يشفعُ عند المخلوقِ بغيرِ إذنٍ، فهو شريكٌ له في حصولِ الطلبِ، واللهُ تعالى لا شريكَ له؛ كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22-23]، مجموع الفتاوى، (1/319-320)، بتصرف، وانظر أيضًا: السلسلة الضعيفة، الألباني، رقم: (22).
([16]) راجع على سبيل المثال التفاسير التالية: تفسير الطبري، وتفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين، والبحر المحيط، ابن حبان، والمحرر الوجيز، ابن عطية، وتفسير القرطبي، وتفسير البغوي، وزاد المسير، ابن الجوزي، والدر المنثور في الفسير بالمأثور، الحافظ السيوطي، ونظم الدرر، البقاعي، وروح المعاني، الألوسي، وفتح القدير، الشوكاني، (2/38)، وغير ذلك.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.