العزلة والخلوة [1]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ تعد العزلة أول عبادة صوفية مارسها الصوفية وحثوا عليها، وهي نتيجة حتمية لأصول العبادة الصوفي في قولها بترك الدنيا والتوكل السلبي، وعليها ستقوم عبادات وممارسات الطريق الصوفي قصد الوصول إلى غايات العقيدة الصوفية، ولهذا اهتم بها شيوخ الصوفية ومارسوها وحثوا مريديهم عليها وأشرفوا عليهم في دخولها.
فمن ذلك قول داود الطائي:" صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السباع"[2].
وقيل للحارث المحاسبي:" ما علامة الأنس بالله؟ قال: التوحش من الخلق، قيل له: فما علامة التوحش من الخلق؟ قال: الفرار إلى مواطن الخلوات، والتفرد بعذوبة الذكر، فعلى قدر ما يدخل القلب من الأنس بذكر الله يخرج التوحش"[3].
وعن أبي القاسم الجنيد أنه قال:" من أراد أن يسلم له دينه، ويستريح بدنه وقلبه، فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة"[4].
وذكر أن مما انفرد به الصوفي: "الخروج عن الأوطان، وقطع الصحاب، وترك ما علم وجهل"[5].
وعن الشلبي أنه قال:" ألزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت"[6].
وقال ذو النون المصري:" لم أر شيئا أبع لطلب الإخلاص، من الوحدة، لأنه إذا خلا، لم ير غير الله تعالى، فإذا لم ير غيره، لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة، فقد تعلق بعمود الإخلاص، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق"[7].
وعن يحيى بن معاذ أنه قال: لصبر على الخلوة من علامات الإخلاص"[8].
وذكر سهل بن عبد الله التستري أن الخير اجتمع في أربع خصال، منها اعتزال الناس[9].
وقال أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري البغدادي:" أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل"[10].
وعن شقيق البلخي أنه قال:" العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلائها الجوع"[11].
وقال أبو طالب المكي:" الخلوة أفضل المعاني، وفيها يجد لذة الوجود وحلاوة المعاملة، ويقبل على نفسه ويشتغل بحاله ولا يهتم بحال غيره، فيحمل حاله على حال غيره فيقصر، أو يقوم بحكم آخر فيعجز، ويعال شيطانا آخر مع شيطانه، وتنضم نفس أخرى إلى نفس، وله في مجاهدة نفسه، ومصابرة هواه وعدوه أكبر الأشغال"[12].
وقال المؤرخ الصوفي أبو بكر الكلاباذي في وصف الصوفية، فذكر من صفاتها أنهم:" قوم قد تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الأخدان وساحوا في البلاد"[13].
وذكر أبو حامد الغزالي أن الطريق الصوفي يتكون من أربع ممارسات، منها الخلوة[14].
وقال الشهاب السهروردي عن الخلوة الصوفية الأربعينية:" فإذا تمت الأربعون زالت الحجب وانصبت إليه العلوم والمعارف انصبابا"[15].
وذكر أن مشايخ الصوفية اتفقوا على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء، منها:" الاعتزال عن الناس"[16].
ومن الأحاديث التي احتج بها الصوفية في تأييد قولهم بالعزلة حديثان ذكرهما الصوفي أبو نعيم الأصبهاني:
الأول: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا أبو بكر بن مالك، ثنا بعد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا سفيان بن وكيع، ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أحب شيء إلى الله تعالى الغرباء" قيل: ومن الغرباء قال: الفارون بدينهم يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى بن مريم عليه السلام"[17].
والثاني: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا أبو غانم سهل بن إسماعيل الفقيه الواسطي، ثنا عبد الله بن الحسن، ثنا إسحاق بن وهب، ثنا عبد الملك بن يزيد، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا رجل يفر بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر"[18].
وردا عليهم أقول:
أولا: إن من يعتزل الناس مطلقا وينفرد بنفسه فهو مخالف للشرع مخالفة صريحة، ومن يفعل ذلك لا يسلم له دينه أي: دين الإسلام وإنما تسلم له العبادة الصوفية، فهي التي تتفق مع العزلة والخلوة، فهما من علامات الإخلاص للعقيدة الصوفية، وليستا من علامات الإخلاص لدين الإسلام، لأن من يفعلها فقد خالفه وعمل على تعطيله لا على الإخلاص له والالتزام به، من يعتزل العزلة الصوفية فهو وقع في شباك الشيطان لا أنه تغلب عليه كما زعم أبو طالب المكي، وعليه فمن يفعلها فقد خالف الشرع وحرم نفسه من صلوات الجماعة في المسجد، ومن التعاون مع إخوانه على البر والتقوى، ومن الجهاد في سبيل الله بالقول والمال والنفس، ومن هذا حاله لا يستريح بدنه، ولا قلبه، وإنما يكون قد أضر بهما ضررا بليغا وعرضهما لغضب الله وعقابه من جهة، وأفسدهما بغوائل وسلبيات وضلالات التصوف من جهة أخرى، فالعزلة التي يدعوا إليها التصوف وأهل هي عزلة قاتلة ومدمرة لدين المسلم وعقله وبدنه ومجتمعه.
وأما قولهم بأن الصوفي يجد راحته وأذواقه في العزلة والخلوة، فإن الحقيقة هي أن ما يجده هؤلاء من أحوال فهي أذواق ومواجيد مغشوشة وفاسدة غالبا، انعكست عليهم من مجاهداتهم الصوفية وبمخالفتهم للشرع وتعطيله، وليست مواجيد شرعية، ولا إيمانية صحيحة، لأن هذه الأنوار لا ينالها إلا المؤمنون الأنقياء الأتقياء الملتزمون بدين الله تعالى، وما يحصل للصوفية من مواجيد لا يختلف عما يحصل للرهبان والنساك من مختلف الأديان والمذاهب.
وأما قولهم بأن الصوفي يجاهد نفسه في خلوته ويحملها على مخالفة هواه، فهو تغليط وتحريف وتحايل على الشرع، وعلى الناس، لأن الذي يجاهد نفسه حق الجهاد يحملها على الالتزام بدين الله تعالى، ولا يحملها على مخالفته وتعطيله والدعوة إلى السلبية والكسل والتواكل كما هو حال التصوف وأهله، لكن القوم صادقون مع أنفسهم من جهة أنهم يجاهدون أنفسهم ليس لطاعة الله ورسوله، وإنما يجاهدون لتلتزم بالعبادة الصوفية المخالفة لدين الله منطلقا وفروعا وغاية.
ولذلك فإن قول أبي حامد الغزالي بأن المجاهدة الصوفية هي:" مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة"[19]، فهو في الحقيقة مجاهدة ليست لمضادة الشهوات المحرمة، وإنما هي لمضادة الشهوات والملذات الحلال أيضا الي هي تستجيب لغرائز ودوافع الطبيعة فينا مخلوقة لأداء ضروريات حياتية واجتماعية، وتعطيلها يضر بالإنسان وعمارة الأرض.
علما بأن المجاهدة الصوفية ليست من أجل تطبيق الإسلام والدعوة إليه، وإنما هي من أجل مخالفته طلبا للفناء في الله التي هي كبرى غايات العقيدة الصوفية، لأن غايتهم هذه لن تتحقق لهم إلا بمخالفة الشرع والعقل والعلم كما سيتبين إن شاء الله.
وثانيا: إن العزلة المطلقة عن الناس ليست ركنا من أركان التربية في الإسلام، لأن دين الله تعالى يفرض على المسلمين الصلوات جماعة في المساجد، والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى، والجهاد في سبيل الله، والأخذ بالعزلة الصوفية هو تعطيل للشرع وهدم له، لكن هذا لا يتنافى مع العزلة الجزئية التي لا ينفصل فيها المسلم عن إخوانه، ولا يترك الصلوات في المساجد وإنما يكثر من المكوث في بيته للعلم أو لأمر آخر نافع.
فهذه العزلة ليست مخالفة لديننا، وإنما العزلة المطلقة التي يقول بها الصوفية هي المخالفة للدين والمعطلة له.
وحتى إذا أبيحت العزلة لبعض الأفراد في أيام الفتن كما جاء في الحديث:" ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به"[20]، فهي ليست أصلا في الإسلام، وإنما هي رخصة مؤقتة لبعض الأفراد، وليست أصلا مأمورا به، ولا هي تشريعا للأمة، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، فالله تعالى لم يأمرنا بالاعتزال وترك الطائفتين تقتتلان، وإنما أمرنا بأن نتدخل للصلح بينهما وإحقاق الحق حتى وإن تطلب الأمر مقاتلة الطائفة الباغية.
ومن الأحاديث التي تنهى عن العزلة:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسان، فإن لم يستطع فبقله، وذلك أضعف الإيمان"[21].
والثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب في عينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله"[22].
وثالثا: إن قولهم بالخلوة الأربعينية، فهي ليست من دين الإسلام، فلم يثبت أن الشرع أمر بها، وهي مانعة من حضور الصلوات في المساجد والتعاون على البر والتقوى، وعليه فلا يمكن أن يصح أن تكون سببا في زيادة الإيمان والعمل الصالح والعلم النافع، قال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وقال: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45].
وبما أن تلك الخدوة أوقعته في المخالفات الشرعية، فهي سبب في عصيانا لله تعالى والبعد عنه لا في زيادة الإيمان، وهي من جهة أخرى دليل دامغ على تقديم الصوفية لعباداتهم على العبادة الشرعية، مما يجعلهم فريسة لأهوائهم وتلبيسات وشبهات نفوسهم وشياطينهم، وما يحصل لهم من مواجيد لا يمكن أن يكون علما صحيحا ونافعا، لأن العلم الصحيح والنافع يحصل بتقوى الله والالتزام بشرعه لا بخلافه، لكنها من مواجيد لا عبادات الصوفية التي تنعكس على أصحابها في طريقهم الصوفي طلبا لغاية التصوف الكبرى التي يخفونها عن غيرهم.
ولا تصح المقارنة بين تلك الخلوة والخلوة الشرعية، ونعني بها الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ليست خلوة مطلقة، لأنها تتم في المسجد ولا تخلوا من اجتماع بالناس كحضور الصلوات الخمس، وهي ليست واجبة بل سنة.
وهذا خلاف الخلوة الصوفية التي تتم عندهم بعيدا عن الناس، أو في الصحاري، أو البيوت، وفي كل الأوقات بل وهي من أساسيات الطريق الصوفي، فلا تصح المقارنة بين الاعتكاف الشرعي وبين الخلوة الصوفية.
علما بأنه كما للصوفية تلك العزلة الفردية، فلهم أيضا عزلة جماعية خاصة به يعقدونها بعيدا عن غير الصوفية لعقد مجالس الغناء، وتبادل الخبرات، وإظهار عقائدهم وأسرارهم التي يخفونها عن المسلمين، فهي انسحاب جماعي من المجتمع، وترك للتكسب، وإهمال للعيال والواجبات الأخرى من جهة أخرى، وتكوين تجمع جديد متواكل متعاون على السلبية واللهو من جهة.
وبما أن ترك العزلة الصوفية ليست من دين الإسلام، فهي متأثرة في ظهورها بأحوال شيوخ الصوفية وتجاربهم من ناحية، وبخلوات اليهود والنصارى والهنود من ناحية أخرى[23].
ورابعا: إن قول ذي النون:" لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة، لأنه إذا خلا، لم ير غيرها الله تعلى، إذا لم ير غيره، لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة، فقد تعلق بعمود الإخلاص، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق"[24]، فليس صحيحا أن من تعلق بالخلوة يكون بالضرورة قد تعلق بعمود الإخلاص لله تعال، لأنه أولا:
إن الله تعالى أمرنا بالإخلاص وتطبيق شريعته وعمارة الأرض، ولم يأمرنا بالخلوة الصوفية، ولما أمرنا بتطبيق دينه وعمارة الأرض، لأن هذه الأوامر تتنافى مع الخلوة الصوفية، وبما أنه سبحانه أمرنا بالإخلاص وتطبيق شريعته وعمارة الأرض فهذا يعني أن الإخلاص الشرعي لا يتحقق بالخلوة الصوفية وإنما يتحقق بالالتزام بالشرع وعمارة الأرض، وأما الخلوة الصوفية فهي تحقق الإخلاص الصوفي القائم على العبادة الصوفية المخالفة للشرع المعطلة له.
وثانيا: فمن الممكن أن يختلي الإنسان ليس إخلاصا لله، وإنما لغايات دنيوية في نفسه يريد تحقيقها آجلا أو عاجلا، كأن يمارس عبادته مدة حتى يسمع به الناس، فيأتون إليه، أو يخرج إليهم فيستخدمهم لمصالحه، وقد يتخلى لرغبة نفسية في الخلوة لينفرد بنفسه إما عجزا عن مخالطة الناس، أو طلبا للراحة والتأمل، وقد يختلي بنفسه لوساوس شيطانه فيؤثر فيه الشيطان ويجره إلى طريقه ويستحوذ عليه ويهلكه، قال سبحانه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، فالخلوة لا توصل بالضرورة إلى الإخلاص لله تعالى كما زعم الرجل، وإنما قد توصل صاحبها إلى الإخلاص لغايات أخرى.
علما بأن الإخلاص الصحيح ليس مرتبطا بالخلوة ولا بالمخالطة، وإنما مرتبط بالنية وصدق التوجه إلى الله تعالى والالتزام بشرعه، بل إن الأصل في ديننا هو الخلطة لا الخلوة، المطلقة، فنحن مطالبون بالعزلة عن الشر لا بالعزلة عن الخير ومغالطة الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد المخلصين ومعه أصحابه الكرام ومع ذلك كانوا مثلا رائعا في الجمع بين الإخلاص والمخالطة والاعتكاف من دون أن يمارسوا الخلوة الصوفية.
لكن يجب أن ننتبه إلى أن ذا النون تكلم عن الإخلاص والخلوة بلسان العبادة الصوفية لا الشرعية، فقوله يتفق تماما مع عبادته، ومخالف للشرع، فهذا لا صوفي وأصحابه أقاموا أصول وأساسيات تصوفهم كله على مخالفة الشرع، لكنهم من جهة أخرى كانوا حريصين جدا أن يتستروا بالإسلام باستخدام العبارات والمصطلحات الإسلامية بمضامين صوفية لا شرعية لغايات صوفية في نفوسهم مخطط لها سلفا.
وأما نصيحة داود الطائي:" صم عن الدنيا، واجعل فطرك في الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع"[25]، فهي غير صحيحة في معظمها، وهي نصيحة صوفية لا شرعية، لأن الأصل في حياة البشر الاجتماع وعمارة الأرض لا العزلة، والأصل في حياة المسلمين الخلطة بتطبيق الشرع، كالتعاون على البر والتقوى وإقامة الصلوات الخمس جماعة في المساجد، قال تعالى: {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
ولذلك فنصيحة داود الطائي هي نصيحة صوفية معطلة للشرع، ومدمرة للعمران البشري، وضررها أكثر من نفع حتى على الصوفية أنفسهم، وقد تدخل صاحبها في مخاطر كثيرة وتجعله فريسة لوساوس وشبهات نفسه وشيطانه.
وخامسا: إن الأحاديث التي يحتج بها الصوفية لتأييد قولهم بالعزلة الصوفية، فهي إما أنها غير صحيحة، وإما أنها مؤولة تأويلا فاسدا تعضيدا للتصوف.
منها: الحديثان اللذان رواهما الصوفي أبو نعيم الأصبهاني بإسناده:" عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أحب شيء إلى الله تعالى الغرباء"، قيل وما الغرباء، قال:" الفارون بدينهم يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى بن مريم عليه السلام"[26].
والحديث الثاني:" قال أبن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا رجل يفر بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر"[27].
أقول: الحديث الأول: ضعيف الإسناد[28]، والثاني: ضعيف أيضا[29]، وأما متنهما فلا يصحان لما سبق أن ذكرناه في الرد على الخلوة الصوفية، فلا نعيد ذكره هنا.
ومنها أيضا الحديث الثالث: الذي ذكره أبو طالب المكي بقوله:" روينا عن عيسى عليه السلام: أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل، وقد رواه عبد الرحمن بن يحيى الأسود عن طاوس رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"[30].
وأقول: هذا الحديث ذكره أبو طالب المكي بلا إسناد كعادة الصوفية، ولا حرص على توثيقه وتحقيقه، وقد ذكر الحافظ العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء أنه لم يجد هذا الحديث[31]، ومما يدل على أنه حديث مختلق، وأما متنه فباطل أيضا بسبب إسناده ولما سبق أن ذكرناه في نقدنا للخلوة الصوفية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الصوفية قد يدافع عن الخلوة الصوفية بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قبل نبوته عندما كان يخلو بغار حراء يتحثث الليالي ذوات العدد[32]، وقد يحتج أيضا بقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [البقرة: 51].
وأقول: لا يصح الاحتجاج بتلك الخلوة، لأنه أولا:
إن خلوة النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء لم تكن خلوة صوفية القصد منها بلوغ حالة الفناء في الله كما يزعم الصوفية.
وثانيا: إن خلوته صلى الله عليه وسلم كانت قبل نبوته صلى الله عليه وسلم، في ليست تشريعا ولا نحن مطالبون باتباعه قبل نبوته، ثم أنه عندما أكرمه الله تعالى بالنبوة، لم يرجع إلى تلك الخلوة، ولا أمر الصحابة بها.
وأما تلك الآية فهي أيضا لا يصح الاحتجاج بها لأنها خاصة بالنبي موسى عليه السلام، ولم تحدث لغيره، ولا أمر أصحابه بها، ولأن شريعتنا نسخت كل الشرائع السابقة فنحن مطالبون باتباع شريعتنا لا شرائع الأنبياء السابقين التي اختصوا بها، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وعليه فلا يصح فعل ما كان خاصا بموسى عليه السلام، ولا بما كان خاصا بالأنبياء الآخرين وأقوامهم.
وبذلك يتضح مما ذكرناه أن العزلة الصوفية هي عزلة تنسجم تماما مع أصول العبادة في التصوف، وتطبيق عملي لأصولها، وهي من جهة أخرى ليست عزلة شرعية: منطلقا، ولا ممارسة، ولا غاية، لأنها معطلة للدين وعمارة الأرض.
الهوامش
[1] ربما لا يفرق بعض أهل العلم بين العزلة والخلوة، لكن المدقق فيهما يجد فارقا بينهما، فالعزلة تكون باعتزال الناس عزلة تامة، فيقد يبقى المعتزل مع بعض الناس، لكن الخلوة أخص، وفيها يتخلى المعتزل بنفسه عن كل الناس، كأن يدخل زاوية أو بيتا ويغلق على نفسه
[2] القشيري: الرسالة القشيرية (12).
[3] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (10/107).
[4] القشيري: الرسالة، (50).
[5] القشيري: الرسالة، (136).
[6] ابن عساكر: تاريخ دمشق، (66/121).
[7] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية(25).
[8] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية(45).
[9] أبو طالب المكي: قوت القلوب (1/136).
[10] القشيري: الرسالة القشيرية(135).
[11] شهابد الدين السهروردي: عوارف المعارف (2/144).
[12] أبو طالب المكي: قوت القلوب (2/209).
[13] الكلاباذي: لتعرف لمذهب أهل التصوف،(21).
[14] الغزالي: إحياء علوم الدين (2/38).
[15] شهاب الدين السهروردي: عوارف المعارف، (2/38).
[16] المرجع السابق، (2/52).
[17] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (1/25).
[18] المرجع السابق: (1/25).
[19] الغزالي: الاحياء، (3/77).
[20] البخاري: الصحيح(9/51) حديث رقم(7081).
[21] مسلم: الصحيح (1/50) رقم:(186).
[22] الحديث حسن، الترمذي: السنن، (4/181)، رقم (1650)، والألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي (4/150)، رقم:(1650).
[23] أبو طالب: المكي: قوت القلوب (2/113)، وأبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (8/30)، وإحسان إلهي ظهير: التصوف، المنشأ والمصادر (102) وما بعدها.
[24] سبق تخريجه.
[25] سبق تخريجه.
[26] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (1/25).
[27] المرجع السابق (1/25).
[28] الألباني: السلسلة الضعيفة، (4/358)، (1859).
[29] المرجع السابق، (8/268)،(3270)، وضعيف الترغيب والترهيب (2/111)،(1637).
[30] قوت القلوب، أبو طالب المكي، (2/113).
[31] انظر: (3/81).
[32] البخاري: الصحيح، (1/7)، (3).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.