الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ مما أُحدث عند دفن الميت وما يتبعه من المنكرات المخالفة للسنة النبوية ما يلي:
1-بدعة دفن الميت في التابوت من غير حاجة:
اتفق الفقهاء من جميع المذاهب على كراهة الدفن في التابوت من غير حاجة، قال الإمام النووي: (قال المصنِّفُ - يعني: الإمام الشيرازي - وسائر الأصحاب: يُكره أن يدفنَ الميت في تابوتٍ، إلا إذا كانت الأرض رخوةً أو نديةً، قال: وهذا الذي ذكرناه من كراهةِ التابوت مذهبُنا ومذهبُ العلماءِ كافَّة، وأظنه إجماعًا، قال العبدري - رحمه الله -: (لا أعلمُ فيه خلافًا)، يعني خلاف فيه بين المسلمين كافة)([1]).
لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الدفن في التابوت، بل الأمر كما قال الإمام إبراهيم النخعي: (كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب، ولا يستحبون الدفنَ في التابوت)، ولأنه من زي النصارى وسنتهم في دفن موتاهم، وفيه تشبه بأهل الدنيا، وهو ينافي الاستكانة والذل المقصودين من وضعه في التراب، وفيه إضاعة للمال([2]).
ولهذا صرَّح بعضُ أئمة الشافعية بأن الدفن في التابوت من غير حاجة بدعة؛ فقد سُئل الإمام ابن الصلاح عما جرت به عادة أهل دمشق من دفن الميت في التابوت من غير حاجة، فأجاب - رحمه الله - بقوله: (الدفنُ في التابوتِ، وهو مبتدعٌ منهيٌّ عنه، وفي النساءِ أيضًا ...)، قال: (... إن الكيفية التي يتعاطاها أهلُ دمشق في ذلك قريبةٌ من فعلِ الكفارِ... ثم بالنظرِ إلى معنى التشبه بأصحاب النواويس يزداد المحذورُ)([3]).
وقال ابن حجر الهيتمي - رحمه الله -: (ويُكره دفنه في تابوت إجماعًا؛ لأنه بدعة، إلا بعذر ككون الدفن في أرضٍ نديةٍ - بتخفيف التحتية -، أو رخوة - بكسر أوله وفتحه -، أو بها سباع تحفر أرضَها وإن أُحْكِمَت، أو تهري بحيث لا يضبطه إلا التابوت، أو كان امرأةً لا محرم لها، فلا يُكره للمصلحة، بل لا يبعد وجوبه في مسألةِ السباع إن غلب وجودها ومسألة التهري)([4]).
2-بدعة الأذان عند إدخال الميت في قبره وسد اللحد عليه:
هذا العمل لا أصلَ له في السنة، لأن الأذان إنما شُرع للصلوات المفروضة - كما تقدم -،وأول ظهور هذه البدعة كان في بداية القرن السابع الهجري تقريبًا، قال الحافظ السخاوي - رحمه الله -: (ومن الغريبِ ما حكاه الجندي مؤرخ اليمن في ترجمةِ أبي الحسن علي بن الحسن الوصابي: إنه هو الذي سنَّ الأذانَ لما سد اللحدَ على الميت، قال: ومنوقتِه إلى عصرنا اعتمدَه كثيرٌ من الناسِ، يفعلونه خاصةً دون غيرهم.
قال: وسألتُ شيخَنا أبا الحسن الأصبحي - يعني صاحب "المعين"– عنه؛ فعزاه لعليٍّ هذا، وقال:إنه كان فقيهًا عالمًا، ولعله أخذَه من الأذانِ في أذنِ المولود، ويقول: ذلك أول خروجه إلى الدنيا، وهذا أولُ خروجه إلى الآخرة)([5]).
3-بدعة وضع الفرش أو المخدة ونحوها تحت الميت:
لم يُنقل عن السلف الصالح - رحمهم الله - أنهم يجعلون تحت الميت شيئًا من الفرش أو الوسادة أو نحوها، بل كانوا يكرهون ذلك، فقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أنه كَرِهَ أن يُجعلَ تحت الميتِ ثوبًا في القبرِ)([6]).
وقال الإمام النووي - رحمه الله -: (يُكره أن يُجعلَ تحته مخدة أو مضربة أو ثوب، أو يُجعل في تابوتٍ إذا لم تكن الأرضُ نديةً، واتفق أصحابُنا على كراهةِ هذه الأشياء، قال: هذا الذي ذكرناه من كراهةِ المخدةِ والمضربةِ وشبهها، هكذا نصَّ عليه أصحابُنا في جميعِ الطرقِ، ونصَّ عليه الشافعي أيضًا)([7]).
4-بدعة الذكر على الجنازة حال وضعها عند القبر قبل الدفن:
لم يرِدْ هذا العملُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف الصالح، وهو بدعة محدثة، قال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - عند ذكر بدع الجنائز، بعد أن بيَّن كراهة الجهر بالذكر حال السير مع الجنازة، قال: (وكذا يُكره الذكرُ عليها حالَ وضعِها عند القبرِ قبلَ الدفنِ، كما يقعُ من أربابِ الطرق.
فإن السنةَ حفرُ القبرِ قبلَ وصولِ الجنازةِ لتُدفن كما حضرت، وبعد الدفنِ لا بأس بأن يُطلب الاستغفار للميت، ففي سنن أبي داود:كان النبيُّصلى الله عليه وسلم إذا فرغَ من دفنِ الميت وقفَ عليه وقال: ((استغْفِرُوا لأخيكم، سَلُوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل))([8]))([9]).
5-بدعة رش ماء الورد على الميت في قبره:
يُستحب أن يُرش عل القبر الماء، لحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رشَّ على قبرِ ابنِه إبراهيم–الماء -)([10])، وأما رش ماء الورد على القبر أو على الميت في قبره، فلا يجوز ذلك لعدم ثبوته في الشرع، بل فيه إضاعة للمال، قال الإمام النووي: (قال المتولي وآخرون: يُكره أن يُرش عليه بماءِ الوردِ، وأن يُطلى بالخلوق، لأنه إضاعة مال)([11]).
بل اعتبر الإمام ابن النحاس هذا العمل من البدع المحدثة، فقال - رحمه الله - عند ذكر بدع الجنائز: (ومنها: رشُّ القبرِ أو الميت حال اضطجاعِه في القبرِ بماءِ الورد، وذلك بدعةٌ مكروهةٌ، قال ابن الملقن في "شرح المنهاج": لأنه إضاعة مال، ولو قيل بالتحريمِ لم يبعد)، ويُندب أن يُرش القبر بماءٍ حفظًا للتراب، وتفاؤلًا بتبريد المضجع، وقد نُقِلَ فعلُه عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم)([12]).
6-بدعة تلقين الميت بعد دفنه([13]):
السنة تلقين المحتضر قول "لا إله إلا الله"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله))([14])، معناه: من حضره الموتُ، والمراد: ذكِّرُوه "لا إله إلا الله" لتكون آخر كلامه، كما في الحديث: ((من كانَ آخرُ كلامِه لا إله إلا الله دخلَ الجنةَ))([15])، وقد أجمع العلماء على هذا التلقين([16]).
وأما ما يُشتهر عند بعض الناس من تلقين الميت بعد الدفن، وهو أن يقوم رجل على قبره ويقول له: "يا فلان ابن فلانة، اذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله إلا الله ..."، أو نحو هذا من الكلام، فإن هذا وإن استحبه جماعة من متأخري الشافعية، إلا أن الحديث الوارد فيه ضعيف باتفاق أهل العلم، لا يصح الاحتجاج به، بل صرَّح أئمة التحقيق من الشافعية وغيرهم بأن هذا التلقين بدعة محدثة.
قال الشيخ أحمد سوركتي - رحمه الله -: (أما تلقين الميت بعد دفنِه ما كان يجب عليه اعتقاده في حياتِه، فإنه لم يثبتٍ ولم يصحٍ فيه شيءٌ عن اللهِ ولا عن رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٍ من الصحابة، ولا عن أحدٍ من الأئمة الأربعة المشهورين، وإنما هو بدعةٌ نبتت من الشامِ.
وقد استحسنه بعضُ العلماء، ولكن استحسانَ العلماءِ لا يجعل البدعةَ سنةً ولا دينًا، فالبدعةُ في الدينِ بدعةٌ وضلالةٌ ولو استحسنه جميعُ الناس، والسنةُ سنةٌ يلزم اتباعها والعمل بها كلُّ من بلغته ولو لم يعمل به أحدٌ.
وإذا كان الميت لم يعمل صالحًا، ولم يتعلَّم ما يجب عليه طوالَ حياته، فما يتغنى به المغنون فوقَ قبرِه لا ينفعُه بشيءٍ، ولا يسمع، فقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]، وقال له: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، وهذا قولٌ عامٌّ، فما جاء مخالفًا لذلك في أمرٍ خاصٍّ كحديثِ القليب - إن صحَّ - يُحمل على أن ذلك كان من إسماعِ اللهِ لهم معجزةً لرسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك سماع الموتى من كلِّ أحدٍ على ما قرره العلماء.
وأما الحديث الذي رواه الطبراني في جواز التلقين عن أبي أمامة رضي الله عنه، فهو بجميعِ طرقِ ألفاظه ساقطٌ، لا يُعتمد عليه باتفاق جمهور العلماء، وقد نصَّ على ضعفِه الحافظُ ابن حجر العسقلاني، والحافظُ العراقي، والإمامُ ابن القيم، حتى من كان يستحسنُ التلقينَ كابن الصلاح والنووي - رحمة الله على الجميع -).
ثم قال: (... وأما السنةُ المستحبةُ فهو الوقوفُ فوقَ القبرِ قليلًا بعد الدفنِ، مع الدعاء للميتِ بالمغفرةِ والتثبيتِ عند السؤال، لما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويأمر به)([17]).
7-بدعة وضع كوز ماء ورغيف ليلًا في المكان الذي غُسِّل فيه الميت، وإيقاد شمعة أو سراج فيه، مع الاعتقاد أن روح الميت تعود إلى ذلك المكان فتأكل وتشرب وتستضيء:
فهذه الأمور كلها ليس لها أصل في الشرعية الغراء، وإنما من ابتداع الجاهلات من النساء.
قال الإمامُ ابن النحاس - رحمه الله - عند ذكر بدع الجنائز: (ومنها: ما ابتدعه النساءُ الجاهلات، وهو أنهنَّ يُبَيتْنَ في الموضعِ الذي غُسِّلَ فيه الميت كوز ماء ورغيفًا، ويوقدون فيه شمعة أو سراجًا، ويعتقدون أن روح الميت تعودُ إلى ذلك المكان فتأكل وتشرب وتستضيء!!
وهذا اعتقادٌ فاسدٌ يكذِّبُه الحسُّ، وبدعة منكرة نشأت عن قلة عقول النساء وجهلهن بالشرع، وإضاعة لما يوقد هناك، فيجب على الزوجِ أو من يقوم مقامه أن يمنعهن من ذلك، ويبين لهنَّ أن ذلك بدعة لا تجوز، ولم يفعلها أحدٌ من الصحابة ولا من التابعين، بل ولا أحدٌ من العقلاء، وإنما هو من خرافات النساء الجاهلات، والله الموفق)([18]).
([1]) المجموع، النووي، (5/252)، وانظر أيضًا ص(258) من نفس المجلد، والروضة، النووي، (1/135)، والأذكار، النووي، ص(277)، والمنهاج، النووي، ص(114)، والعزيز شرح الوجيز، الرافعي، (2/451).
([8]) رواه أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت، (3221)، والحاكم في المستدرك، (1372)، دار الكتب العلمية، والبيهقي في السنن الكبرى، (4/56)، وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي، قال الشيخ الألباني: (وهو كما قالا)، أحكام الجنائز، ص(198).
([14]) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى: لا إله إلا الله، (916) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، و(917) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([15]) رواه أبو داود، كتاب الجنائز، باب التلقين، (3116)، والحاكم في المستدرك، (1842)، من حديث معاذ رضي الله عنه، قال الحاكم: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.