بدع في الجنائز
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن موضوع الجنائز موضوع تعبدي محض، ولا مجال للقياس والرأي والاستحسان فيه([1])، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما ينبغي فعله في هذا الباب وما لا يجوز فعله فيه بيانًا شافيًا، حتى ترك أمته في هذا الأمر وغيره من أمور الدين على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
و(كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكملَ الهدي، مخالفًا لهدي سائرِ الأممِ، مشتملًا على الإحسانِ إلى الميتِ، ومعاملته بما ينفعه في قبرِه ويوم معادِه، وعلى الإحسانِ إلى أهلِه وأقاربِه، وعلى إقامةِ عبوديةِ الحي لله وحده فيما يعامل به الميت.
وكان من هديه في الجنائز إقامةُ العبودية للربِّ تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإحسان إلى الميت، وتجهيزه إلى اللهِ على أحسن أحوالِه وأفضلِها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفًا يحمدون الله، ويستغفرون له ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرتَه، ثم يقومُ هو وأصحابُه بين يديه على قبرِه سائلين له التثبيت أحوج ما كانَ إليه، ثم يتعاهدُه بالزيارة له في قبرِه، والسلام عليه، والدعاء له، كما يتعاهد الحيُّ صاحبَه في دارِ الدنيا.
فأول ذلك: تعاهدُه في مرضِه وتذكيره الآخرة، وأمرُه بالوصيةِ والتوبةِ، وأمرُ من حضرَه بتلقينِه شهادةَ أن لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه([2])، ثم النهي عن عادةِ الأممِ التي لا تؤمن بالبعثِ والنشورِ: من لطمِ الخدودِ وشقِّ الثياب، وحلقِ الرءوس، ورفعِ الصوتِ بالندبِ والنياحةِ وتوابع ذلك، وسن الخشوع للميت، والبكاء الذي لا صوتَ معه، وخزن القلب، وكان يفعلُ ذلك ويقول: ((تدمعُ العينُ، ويحزنُ القلبُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي الربَّ))([3]).
وسنَّ لأمته الحمدَ والاسترجاعَ والرضى عن اللهِ، ولم يكنٍ ذلك منافيًا لدمعِ العين، وحزن القلب، ولذلك كان أرضى الخلق عن اللهِ في قضائِه، وأعظمهم له حمدًا، وبكى مع ذلك يوم ماتَ ابنُه إبراهيم، رأفةً منه ورحمةً للولدِ، ورقةً عليه، والقلبُ ممتلئٌ بالرضى عن اللهِ عزوجل وشكره، واللسان مشتغلٌ بذكرِه وحمدِه)([4]).
وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح - الله تعالى - في أمر الجنازة، فكانوا بالسنة مستمسكين، وعن البدعة مبتعدين، ثم لما كان كثير من الناس قد وقعوا في البدع في باب الجنائز، فكان من الواجب أن يوصي المسلم بأن يُجهز ويُدفن على السنة؛ عملًا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]الآية، واقتداءً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يوصون بذلك، والآثار عنهم في ذلك كثيرة.
وقد طال كلام العلماء في ذكر البدع المحدثة في الجنائز، وأُفْرِدَت بالتأليف، وكان للعلماء الشافعية - رحمهم الله - نصيبًا أوفر من هذه الجهود المباركة، وهذا ما سيتم إبرازه إن شاء الله.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.