لازال الاعتقاد السائد عند كثير من الناس أن طريق الجهاد بأنواعه بما في ذلك الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغاير طريق تزكية النفس ويعارضها، وأن تزكية النفس لا بد لها من خلوة وعزلة وبعد عن الناس، وأن ينشغل الإنسان بنفسه لا بغيره، وأن ينظر في عيوبه ولا يلتفت لعيوب الآخرين، وأن يهجر المسلم دنياه وما فيها ليسلم له دينه ويتفرغ لعلاج نفسه وترويضها.
ولخطورة هذه المفاهيم المنحرفة، وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع، وتشويهها للصورة النقية التي رسمها الإسلام لتزكية النفس، ولكن المقصود هنا إبراز دور الجهاد في تزكية النفس وبيان أهمية هذه العبادة الجليلة بأنواعها في تطهير النفس وترقيتها وصلاحها.
والجهاد مشتق من الجهد وهو الطاقة والمشقة، والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة، وتحمل المشقة في العبادة، وقد ورد الجهاد في القرآن الكريم على عدة معان:
الأول: مجاهدة الكفار والمنافقين بالبراهين والحجة، ومنه قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، أي: جاهدهم بهذا القرآن حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله ويدينوا به.
الثاني: جهاد القتال، وقد ورد في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
الثالث: مجاهدة النفس والشطيان، وهو أحد الأقوال في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وقد قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية:" الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون"، وقال الإمام الفخر الرازي:" من جاهد بالطاعة هداه الله سبل الجنة".
وهناك آيات كريمة أخرى تشمل المعاني الثلاثة، منها قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
قال الإمام ابن كثير: وجاهدوا في الله، أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، فالله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم".
وقد بين الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله أنواع الجهاد وأقسامه فقال:" الجهاد شرعا بذل لاجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق" ثم قال:" أما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب".
وهكذا نجد أن الجهاد يشمل مجاهدة العدو الداخلي والخارجي، وأن مجالاته كثيرة من أبرزها:
1- المجاهدة باللسان والبيان عن طريق الحجة والنصح والدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2-المجاهدة بقتال الأعداء وبذل النفس والمال في سبيل الله.
3-مجاهدة النفس والشيطان وقمع تسلطهما.
ولعل أول ما تنبغي ملاحظته أن الله سبحانه جعل الفلاح متعلقا بتزكية النفس فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [الشمس: 9]،كما جعله أيضا متعلقا بالجهاد، فقال سبحانه: { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، وجعله أيضا متعلقا بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].
فطريق الفلاح هو طريق الدهوة والجهاد، وهو نفسه طريق تزمية النفس لا يختلفان، ومن هنا كان الجهاد بأنواعه وسيلة عظمى للتزكية في المنهح الإسلامي.
وقد أمر الله عباده بالجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وهو فرض كفاية لا يجوز لجميع المسلمين أن يتخلوا عنه أبدا، وقد يتعين بحسب الأشخاص والأحوال.
ولقد وردت آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة في الأمر بالجهاد وبيان فضله ومنزلته وما أعده الله للمجاهد من أجر عظيم، والتأكيد على أهمية الجهاد في تقوية الإيمان والتحقق بالصدق، ومن ذلك قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
وقوله سبحانه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء: 95، 96].
وهناك عشرات الأحاديث النبوية الواردة في الجهاد وبيان منزلته بين العبادات الإسلامية منها
-ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور".
-وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها".
فإذا كانت الغدوة الواحدة في سبيل الله، وهي السير أول النهار، والروحة وهي السير آخره، خير من نعيم الدنيا كلها، فكيف بمن يمضي أيامه ولياليه مجاهدا في سبيل الله داعيا إلى دينه؟!
-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:" ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، قال فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهدد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القات بآيات الله لا يفتر من صيام ولا من صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى".
قال الإمام النووي رحمه الله:" في هذا الحديث عظيم فضل الجهاد، لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك لحظة من اللحظات، ومعلوم ان هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تستطيعونه".
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.