كي يثمر الجهاد ثمراته المرجوة في تزكية لنفس ويحظى المجاهد بالمنزلة الكبيرة عند ربه فلابد من أن يتحقق من جهاده شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله سبحانه في كل أنواع الجهاد.
تكرر الحديث عن الإخلاص في مواضع عدة، ومع ذلك لا بد من الإشارة إليه هنا، إذ أن المسلم الذي يبذل جهده ويضحى بماله ونفسه ويعرض حياه للخطر ثم يقصد بذلك عرضا من أعراض الدنيا كالشهرة والسمعة ولا يريد بذلك وجه الله عز وجل، فهو في غاية البعد عن ربه، ولا يرجى لعمله وتضحياته أن تؤدي ثمراتها في تزكية النفس، بل إنه يعرض نفسه لسخط الله وعقوبته ويرمي بها في نار جهنم.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار"[1].
ولذلك لا بد للمجاهد أن يصحح نيته، ويجعل جهاده لإعلاء كلمة الله والدعوة إلى دينه، لا من أجل المغانم والمنافع والمكاسب الدنيوية.
وروى البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"[2].
الشرط الثاني: العمل لما يدعو إليه ويأمر الناس به في جهاد الدعوة:
لكي يؤدي النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دوره في تزكية نفس الدعية ونفوس المدعوين، وينال صاحبه به الأجر والقربى من الله سبحانه، لابد أن يكون ملتتزما بما يدعو إليه متحققا بما يرشد الناس إليه.
فالواجب على الداعية الذي يجعل الدعوة إلى الله ميدان جهاده أن يدعوه نفسه ويجاهدها وأن يخوض المعركة معها، لكي يثمر جهاده النفع للآخرين والتأثر فيهم.
وقد أوضح ابن القيم رحم الله هذه المسألة بجلاء[3]، وبين أن الواعظ إذا عمي عن عيوبه حرم الانتفاع بموعظته، لأن النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعمله، ولذلك قال شعيب عليه السلام لقومه: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
فالموعظة لا تنفع إلا إذا خرجت من القلب، فهي عندئذ تصل إلى القلوب، أما إذا خرجت من اللسان ولم يكن صاحبها متحققا بها فإنها لا تجاوز الآذان.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب الجهاد، ولابد فيه من الالتزام والتطبيق لما يأمر به أو ينهى عنه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" التحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد أن لا يقربه، ويعزم على تركه، ويكره فعله"[4].
ولكن ينبغي أن لا يتخذ المسلم هذا الشرط ذريعة للتخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلية، فكل ابن آدم خطاء، والعبد مأمور بأن يتقي ربه بقدر الاستطاعة، وأن يبادر إلى التوبة عند الذنب ولا يصر عليه، وقد نبه على ذلك الإمام ابن رجب الحنبلي، فقال:" ومع هذا كله فلا بد للإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والتذكير، ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، لأنه لا عصمة لأحد بعده"[5].
كما نقل عن الحسن البصري رحمه الله أنه قيل له:" إن فلانا لا يعظ ويقول أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول أي تمامه، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر".
ولا شك أن الدعية عندما يخلص في دعوته ونصحه يكون أول المتأثرين بها المستجيبين لها فالكلمة الصادقة تؤثر في قائلها مثلما تؤثر في سامعيها، وكثيرا ما يقف الداعية واعظا للناس وخطيبا فيلاحظ تأثر المستمعين وانفعالاتهم وإذا به يهتز من أعماق نفسه وكأن المستمعين من شدة تأثرهم هم الذين يعظونه بدموعهم وخشوعهم، موعظة صامته أبلغ من موعظته الناطقة، ولا شك أن هذه المجالس تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة وتنزل على قلوب أهلها السكينة فتلين وتخشع، وبهذا يجد الداعية أن نفسه قد غمرتها السكينة وأصبحت طوع أمره تبصره بعيوبه وتلومه على هفواته وغفلاته، وهذا كله من بركة الإخلاص في الدعوة والتفاني في الجهاد بمختلف أنواعه.
[1] رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة (1905).
[2] رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (3/206).
[3] ينظر: مدارج السالكين (1/446).
[4] مجموع الفتاوى (10/631).
[5] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (16).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.