الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ الناظر إلى العلاج بـ "الريكي والعلاج البراني" يجد أنه نتاجٌ لثقافاتٍ شعبيةٍ، فليسَ بمستغربٍ وجود علاقةٍ بينهما - بوصفِهما أحد فروعِ الطبِّ الشعبي - وَبينَ البيئةِ الفلسفيةِ المحيطةِ بهما؛ إذْ أنَّ مِنَ المعلومِ بالعادةِ أنْ يتفرعَ عَنْ كُلِّ قومٍ مِنْ أنواعِ العلاجِ مَا يتناسبُ مع فكرِهم وَمُعْتَقَدِهم.
ويمكنُ تصنيف الريكي وَالعلاجَ البراني بأنهما أحد أشكالِ العلاجاتِ الروحيةِ([1]) كونهما يستمدان منهجَهما العلاجي مِنْ فكرٍ عقدي فلسفي، ويعتمدان وسائلَ غيرَ ماديةٍ كـ"الرموزِ وَالتعاويذ وَالأدعيةِ".
والعلاقةُ بينَ أصولِ "الريكي وَالعلاج البراني" وَبينَ الفلسفاتِ الشرقيةِ يمكنُ إيجازُها بما يلي:
الطاقةُ الكونيةُ فِي الفلسفات الشرقيةِ:
إنَّ إدراكَ أبعادِ وَمرتكزاتِ "مفهوم الطاقة" لا يكونُ إلى بمعرفةِ الخلفيةِ الفكريةِ وَالثقافيةِ للبيئةِ التي نشأتْ في تطبيقِها الطاقةُ، وَباستعراضِ مرتكزاتِ الفلسفاتِ الشرقيةِ يتضحُ ارتباطُ "مفهوم الطاقة" بالفلسفاتِ الإلحاديةِ الشرقيةِ بشكلٍ جليٍّ وَواضحٍ.
إذْ أنَّ القولَ بوجودٍ مُطلقٍ لا يمكنُ إدراكُه أوْ وصفُه، منه ينبثقُ الكونُ وَيكتسبُ طاقتَه، وَالسعيُ نحو الاتحادِ بهذا المُطلقِ وَإدراك الوحدةِ معه - أيًّا كانَ اصطلاحُه - هوَ السمةُ السائدةُ فِي الفلسفاتِ الشرقيةِ.
وَهذَا هوَ عيُن ما يُفَسَّرُ بِهِ "مفهوم الطاقة"، وَتسعى تطبيقاتُها إلى تحقيقِ الاتحادِ معَ "الطاقة" عنْ طريقِ ممارسةِ الطقوسِ التأمليةِ، منْ أجلِ اكتسابِ القدراتِ الشفائيةِ الخارقةِ - كمَا سيتضحُ معنا لاحقًا -([2])، وَفيما يلي توضيحٌ مختصرُ لعلاقةِ "مفهوم الطاقة" بالفكرِ الفلسفي الشرقي:
الفلسفاتُ الهنديةُ:
يُطِلَقُ مبدأُ "البرانا" فِي الفلسفاتِ الهنديةِ، وهوَ أحدُ المعاني التي يُعَبَّرُ بها عنْ مفهومِ الطاقةِ الكونيةِ، وقدْ اختلفَ الهندوسُ في أصلِه؛ هلْ هوَ متولدٌ عن البراهمان، أو أنَّه أزلي؟ وتشيرُ تعاليمُ منهجِ "السواترا" الهندوسي إلى إمكانيةِ الشعورِ بطاقةِ البرانا الكاملةِ وَالشاملةِ لعمومِ الطاقاتِ الكونيةِ وَالماديةِ وَالأثيريةِ([3]).
وَلتحقيقِ أهدافِ ممارسةِ اليوغا - وهيَ أحدُ رياضاتِ التأملِ - في الفلسفتين الهندوسيةِ وَالبوذيةِ، فإنَّ تعليماتِ اليوغا تنصُّ في أحدِ مراحلها على امتصاصِ مَا يُسمى "طاقة البرانا" عنْ طريقِ تنظيمِ "عملية التنفس"([4]).
الطاوية:
تُعَدُّ "تشي"، وهي منَ المفرداتِ التي يُعَبَّرُ بها عن الطاقةِ الكونيةِ، أحد المرتكزاتِ الأساسيةِ للنظرةِ الفلسفيةِ الطاوية لنشأةِ الكونِ، وَيعبرُ عنها بالواحدِ المتولدِ عن "الطاو"؛ لذلك فإنَّ "تشي" الطاقة الكونية بالنسبةِ للفكرِ الطاوي تعدُّ المكونُ الأساسي للحياةِ.
وَقَدْ أُطْلِقَ عليها منَ الأوصافِ ما يؤكدُ حقيقتَها الفلسفيةَ، وَأنها ليستْ إلَّا تعبيرًا عنْ عقيدةِ وحدةِ الوجودِ، حيثُ وُصِفَتْ بأنَّ وجودَها سابقٌ لكلِّ وجودٍ، وَأنَّ كلَّ موجودٍ ليسَ إلَّا مظهرًا مِنْ مظاهرها، وَأنها قوةٌ ممتدةٌ في الوجودِ وَمتغلغلةٌ في كُلِّ جزءٍ مِنَ الزمانِ وَالمكانِ([5]).
"ين يانغ" في الفلسفاتِ الشرقيةِ:
فلسفةٌ صينيةٌ قديمةٌ، وَيمكنُ التعبيرُ عنهما بأنهما قطبان ليسَ لهما حقيقةٌ، يُعَبَّرُ بهما عن عدمِ التوازنِ، فهما متناقضان وَمتكاملان، وَمرتبطان بقضيةِ نشأةِ الكونِ، إذْ هما ناتجان منَ العدمِ، وَكُلُّ ما في الكونِ يُعَدُّ بزعمِهم نتيجةً حتميةً لتضادٍ وَتزاوجٍ، "ينغ" الذي يمثلُ السلبَ، وَ"يانغ" الذي يمثلُ الإيجابَ([6]).
وَقَدْ تَبَنَّتْ الفلسفةُ الطاوية مبدأَ (ين-يانغ)، حيثُ اعْتبرَ أَنَّ أساسَ الوجودِ هوَ (الطاو)، ومنه نتجَ (ين-يانغ)، وَكُلُّ مَا في الوجودِ هوَ نتيجةٌ لتفاعلِ المتضادين، الموجبُ (يانغ) معَ السالبِ (ين)، وهذا التفاعلُ يكونُ عبرَ القانونِ الطبيعي (الطاو).
ففسرَ استمرارَ عجلةِ الحياةِ بالتفاعلِ الأبدي بينَ التضادين (ين- يانغ)، وارتباطُهما بأساسِ نشأةِ هذا الكونِ (الطاو) -حسبَ زعمِهم -([7])، وَفي الهندوسيةِ مبدأٌ مرادفٌ لفلسفةِ (ين-يانغ) الطاوية، يعبرُ عنه بالقطبانِ (بنغالا - إدا)([8]).
الشاكرات في الفلسفاتِ الشرقيةِ:
للشاكرات أهميةٌ فِي تطبيقاتِ العلاجِ الشرقيةِ المختلفةِ، وَبالأخصِّ شاكرا التاج، وَالتِي تقعُ في أعلى الرأسِ، ويتمُّ التركيزُ عليها أثناءَ ممارسةِ التأملِ، إذ يُعدُّ ذلكَ طريقًا لتحقيقِ الوحدةِ معَ الطاقةِ الكونيةِ، وبالتالي تُعَدُّ شاكرا التاج مركزًا لاستقبالِ الطاقةِ الكونيةِ، وَبوابةً لعبورِها، وَيُطلقُ عليها "مركز الوعي البوذي الأعلى"، أو "الوعي الكوني الأعلى".
وَعندما يتمُّ تطويرُ هذا النوعِ مِنَ الوعي فإنَّ المعرفةَ تتجلى، وَيمكنُ إدراكُها دونَ أنْ يلزمَ منْ ذلكَ تعلمٌ أوْ دراسةٌ([9])، وَيعتقدُ أتباعُ الـ"تانترا" البوذية أنَّ شاكرا التاج طريقٌ لتحقيقِ الوحدةِ معَ الكلي المطلق "براهمان"، إِذْ تُعَدُّ طريقًا للخروجِ مِنْ دائرةِ التناسخِ([10]).
وَفِي الهندوسيةِ تُرْبطُ كُلُّ "شاكرا" بنوعٍ مِنَ الآلهةِ عندَ الهندوس، مع تشابهٍ فِي الخصائص مع بقيةِ الفلسفات منْ حيثُ اللونِ وَالموقعِ وَالخصائص؛ فعلى سبيلِ المثالِ: ترتبطُ شاكرا "القاعدة أو العجان" وَتُسمى عندَ الهندوسِ بـ(Muladhara) بالإله براهما، وَترتبطُ شاكرا "السرة" وَتُسمى عندَ الهندوسِ ((Manipura بالإله رودرا، وَتتبعُ الشاكرات الآلهةَ فِي خصائصِها؛ فأحدُها مختصٌّ بالحبِّ وَالآخرُ بالحكمةِ وَآخرٌ بالاستبصارِ ... وَهكذا([11])!!
وَبعدَ استعراضٍ مُجملٍ للعلاقةِ بينَ أصولِ الريكي وَالعلاجِ البراني، وَبينَ الفلسفاتِ الشرقيةِ؛ يتضحُ الارتباطُ الوثيقُ بينَ أصولِ العلاجِ وَبينَ الفلسفاتِ الشرقيةِ، وَأنها ليستْ إلَّا فرعًا وَنتاجًا لتصوراتِها.
الهوامش
([1]) صنفت منظمة الصحة العالمة الطب البديل إلى عدة أصناف ومن بينها ما أطلقت عليه العلاجات الروحية، تصفح: موقع منظمة الصحة العالمية، إستراتيجية المنظمة في الطب الشعبي (2002-2005م )
www.who.int/topics/traditional_medicine/ar . 25-12-2009
([4]) انظر: الفكر الشرقي القديم، جو كلر، ص(96-101)، الفلسفات الهندية قطاعاتها الهندوكية والإسلامية والإصلاحية، علي زيعور، ص(370-374)، اليوغا الشافية، تيمو ثماكول، ص(28-32)، الفكر الشرقي القديم، جمال المرزوقي، ص(228).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.