الكاتب/ محمد بن عبد الله المقدي
لا شك أن الناشر الأول لعقيدة أهل السنة والجماعة، هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أوضح العقيدة وأبانها خير بيان، بأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، ويأتي في المرتبة بعده صحابته رضوان الله عليهم الذين ساروا على نهجه، واقتفوا أثره، ونشروا سنته، فلم يبدلوا ولم يغيروا رضي الله عنهم جميعًا.
وسار على خطا الصحابة رضوان الله عليهم التابعون ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من أئمة الدين وعلماء المسلمين، لا يحدهم مذهب ولا يجمعهم وصف إلا أنهم أهل السنة والجماعة، كالإمام مالك، وعمر بن عبد العزيز، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والشافعي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري ومسلم وأبو داود، والترمذي، والأوزاعي، والطبري، والذهبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وأبو جعفر الطحاوي، وابن أبي العز الحنفي، ومرورًا بالعز بن عبد السلام والشاطبي والشنقيطي، والمجدد محمد بن عبد الوهاب، والصنعاني والشوكاني، والعلامة محمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وناصر الدين الألباني وعبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثمين، ومن نحا نحوهم رحمهم الله تعالى.
إلا أنه اشتهر بعض الأئمة من هؤلاء كمنارات عظيمة وكواكب مضيئة حتى صاروا أشهر أئمة السنة والجماعة، وأعلامها، وأشهر هؤلاء هم:
1- الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ت: (150هـ):
كان أحد أئمة الإسلام وجهابذته العظام، وكانت له جهوده العظيمة في نشر العقيدة الصحيحة والذود عنها، وكتابه "الفقه الأكبر" أشهر من نار على علم في هذا الباب، من أقواله - رحمه الله - في بيان مذهب السلف في صفات الله تعالى قوله: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال: غضبه عقوبته ورضاه ثوابه، ونَصِفُه كما وصف نفسه أحدٌ لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، حيٌّ قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم، ليست كأيدي خلقه، ووجهه ليس كوجوه خلقه".[1]
وكان - رحمه الله- ينهى عن الكلام، ويذم أهله، فمن ذلك قوله: " لعن الله عمرو بن عبيد - زعيم المعتزلة - فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا ينفعهم فيه الكلام".[2]
2- الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس، ت: (179هـ)
كان إمامًا عظيمًا من أئمة السلف، وهو وإن كان ممن يُعمل رأيه في الفقه، إلا أنه كان في مجال العقيدة وقافًا عند النصوص لا يتعداها، ملتزمًا بمذهب السلف الصالح لا يحيد عنه قيد أنملة، وكان -رحمه الله- منكرًا للكلام ذامًّا لأهله، ومما يروى عنه في ذلك، ما رواه ابن عبد البر من قوله: "الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا نحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل فالسكوت أَحَبُّ إليَّ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"، وروى أبو نعيم عنه: " لو أن رجلاً ركب الكبائر كلها بعدَ ألا يشرك بالله، ثم تخلّى من هذه الأهواء والبدع.. دخل الجنة".[3]
3- الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت: (204هـ):
أحد أعلام الإسلام المتبوعين، كان على اعتقاد السلف الصالح، وكان شديدًا على أهل الكلام ذامًّا لهم، محذرًا منهم، من كلامه الذي يبين معتقده ما أورد العلامة ابن قيم الجوزية في اجتماع الجيوش الإسلامية، قوله: " القول في السُّنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها - أهل الحديث - الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه، يَقرُب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء".[4]
ومن كلامه أيضا قوله: "الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب، ألا ترى قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة: 143] يعني صلاتكم إلى بيت المقـدس، فسمى الصـلاة إيمانًا وهي قول وعمـل وعقد"[6]، وأما موقفه من الكلام فيوضحه ما أخرجه ابن بطة عن أبي ثور قال: قال لي الشافعي: "ما رأيت أحدًا ارتدى شيئًا من الكلام فأفلح"[7]، وأخرج الهروي عن يونس المصري قال: قال الشافعي: "لأن يبتلي الله المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه بالكلام".[8]
4- الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل، ت: (241هـ):
سيد السنة وناصرها، وإمام الطائفة وقائدها، ابتُلي فصبر، وجاهد في تبليغ مذهب السلف فنصره الله، وأضحى ذكره ثناء عطرا في ألسن الصالحين، من أقواله رحمه الله في بيان عقيدة السلف: "القرآن كلام الله وليس بمخلوق"، وقال أيضًا: "من أفضل خصال الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، وقال أيضًا: "الإيمان يزيد وينقص كما جاء في الخبر: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)". [9]
وأما موقفه من الكلام فقد كان رحمه الله شديدًا النقد له، شديد الذم لأهله، ومن أقواله في ذلك: "من تعاطى الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لم يخل أن يتجهم". وكتب أحمد بن حنبل إلى عبيد الله بن يحيي بن خاقان:" لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محدود"[10]، وبعد، فهذا جهد بشري عرضة للنقص، فما كان في هذا البحث من خير فهو من الله تعالى وما كان فيه من شر فهو من نفسي، وأستغفر الله تعالى، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
[1] لأبي حنيفة النعمان بن ثابت، الفقه الأبسط، الطبعة الأولى، مكتبة الفرقان - الإمارات العربية، 1419هـ - 1999م، ص56.
[2] أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، ذم الكلام وأهله، الطبعة الأولى، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، 1418هـ -1998م، ص28.
[3] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، جامع بيان العلم وفضله، ص415. مرجع سابق
[4] عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، إثبات صفة العلو، الطبعة الأولى، الدار السلفية – الكويت، 1406هـ، ص(1/ 124).
[6] محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم، أبو الحسن الآبري السجستاني، مناقب الإمام الشافعي، الطبعة الأولى، الدار الأثرية، 1430 هـ - 2009 م، المحقق: د / جمال عزون، ص(1/387).
[7] أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة، الإبانة الكبرى لابن بطة، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، ص535-536.
[8] محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم، أبو الحسن الآبري السجستاني، مناقب الإمام الشافعي، ص182. مرجع سابق
[9] أبو الحسين ابن أبي يعلى، محمد بن محمد، طبقات الحنابلة، ص2/275. مرجع سابق
[10] أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة، الإبانة الكبرى لابن بطة، ص2/538. مرجع سابق
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.