الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فإذا صار ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال فقد خرج وقت الظهر، ودخل وقت العصر، وليس بين الوقتين برزخ أو تداخل، ويسن بين صلاة العصر أن يصلي ركعتين لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة" متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -.
قال البخاري في صحيحه: "باب: بين كل أذانين صلاة لمن شاء"، ثم روى من طريق عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة»، ثم قال في الثالثة: «لمن شاء»[1].
والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، قال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "وأما الظهر، فإنه يستحب التطوع قبلها بركعتين أو أربع ركعات، وهي من الرواتب عند الأكثرين.
وقد روي في الصلاة عقب زوال الشمس أحاديث، في أسانيد أكثرها مقال، وبكل حال؛ فما بين الأذانين للظهر هو وقت صلاة، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر.
وأما بين الأذانين لصلاة العصر، فهذا الحديث يدل على أنه يشرع بينهما صلاة، وقد ورد في الأربع قبل العصر أحاديث متعددة، وفي الركعتين أيضا، واختلفوا: هل يلتحق بالسنن الرواتب؟ والجمهور على أنها لا تلتحق بها[2].
قال أبو محمد: وهاتان الركعتان بين الأذان والإقامة في العصر سنة مطلقة؛ للخبر، ليست سنة راتبة، ولم يصح في التطوع في هذا الوقت شيء من الأخبار، لا من قوله، ولا من فعله عليه الصلاة والسلام.
فأما حديث ابن عمر «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا»[3] فلا يصح، وكل شواهده ضعيفة.
قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن.
قال ابن أبي حاتم في العلل ما نصه: "وسمعت أبي يقول: سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحم الله من صلى قبل العصر أربعا» فقال: دع ذي! فقلت: إن أبا داود قد رواه، فقال أبو الوليد: كان ابن عمر يقول: «حفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات في اليوم والليلة ...»، فلو كان هذا لعده، قال أبي: يعني: كان يقول: حفظت اثني عشر ركعة"[4].
قلت: ففيه علل:
1- قول أبي زرعة في محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى - وقد ينسب لجده ولجد أبيه ولجد جده: "واهي الحديث، وروى عنه الطيالسي أحاديث منكرة"، قلت: وهذا منها.
2- وإعلال أبي حاتم لمتنه.
فالخبر لا يصح. والله أعلم.
لا يصح حديث تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار ست عشرة ركعة
وأما ما رواه أحمد - قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، وإسرائيل، وأبي، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، قال: سألنا علياً - رضي الله عنه -، عن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، فقال: «إنكم لا تطيقونه»، قال: قلنا: أخبرنا به نأخذ منه ما أطقنا، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر أمهل، حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة العصر من هاهنا من قبل المغرب، قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة الظهر من هاهنا - يعني من قبل المغرب - قام فصلى أربعاً، وأربعاً قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعاً قبل العصر، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين، والمسلمين «قال: قال علي: «تلك ست عشرة ركعة، تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وقل من يداوم عليها[5]
- فحديث غير محفوظ، بل هو أشد وهناً من حديث ابن عمر السابق.
وقال في الهدي: وأما الأربع قبل العصر، فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي، الحديث الطويل، أنه - صلى الله عليه وسلم - «كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات، وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربع ركعات».
وفي لفظ: «كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر، صلى ركعتين، وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر، صلى أربعا، ويصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعا، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين» وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول: إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره[6]
وقال شيخ الإسلام في الفتاوي (إجابة على سؤال) ما نصه: وسئل: هل للعصر سنة راتبة أم لا؟ أفتونا مأجورين؟
فأجاب: الحمد لله، الذي ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان يصلي مع المكتوبات عشر ركعات، أو اثنتي عشرة ركعة: ركعتين قبل الظهر، أو أربعا، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين»، وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة بنى الله له بيتا في الجنة»، ورويت في السنن: «أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر»، وليس في الصحيح سوى هذه الأحاديث الثلاثة حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة.
وأما قبل العصر فلم يقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر إلا وفيه ضعف، بل خطأ، كحديث يروى عن علي أنه كان يصلي نحو ستة عشر ركعة منها قبل العصر وهو مطعون فيه فإن الذين اعتنوا بنقل تطوعاته، كعائشة وابن عمر - رضي الله عنهم - بينوا ما كان يصلّيه، وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها، لكن كان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة" ثم قال في الثالثة: "لمن شاء"؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة، فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة، وليست بسنة، فمن أحب أن يصلي قبل العصر كما يصلي قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه فحسن، وأما أن يعتقد أن ذلك سنة راتبة، كان يصليها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب فهذا خطأ.
والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات:
إحداها: سنة الفجر والوتر: فهاتان أَمَرَ بهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمر بغيرهما، وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما في السفر والحضر، ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما.
والثانية: ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر: وهو عشر ركعات، وثلاث عشرة ركعة، وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك.
والثالثة: التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم عليه ولا قدر فيه عدداً: والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا الباب، وقريبا من ذلك صلاة الضحى، والله أعلم" [7].
وقال الجُوزَجَاني في أحوال الرجال: في ترجمة عاصم: "روى عنه أبو إسحاق حديثاً في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة ركعة: «أنه كان يمهل حتى إذا ارتفعت الشمس من قبل المشرق كهيئتها من قبل المغرب عند العصر قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا ارتفعت الشمس وكانت من قبل المشرق كهيئتها من المغرب قبل المغرب عند الظهر قام فصلى أربع ركعات، ثم يمهل حتى إذا زالت الشمس صلى أربع ركعات قبل الظهر، ثم يصلي بعد الظهر ركعتين، ثم يصلي قبل العصر أربع ركعات، فهذه ست عشرة ركعة».
فيا لعباد الله أما كان ينبغي لأحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه يحكي هذه الركعات إذ هم معه في دهرهم!! والحكاية عن عائشة - رضي الله عنها - في الاثنتي عشرة ركعة من السنة، وابن عمر - رضي الله عنهما - عشر ركعات، والعامة من الأمة أو من شاء الله قد عرفوا ركعات السنة الاثنتي عشرة، منها بالليل ومنها بالنهار.
فإن قال قائل: كم من حديث لم يروه إلا واحد؟!
قيل: صدقت، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس فيتكلم بالكلمة من الحكمة، لعله لا يعود لها آخر دهره، فيحفظها عنه رجل، وهذه ركعات - كما قال عاصم كان يداوم عليها - فلا يشتبهان، ثم خالف رواية الأمة واتفاقها حين روى أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الغنم"[8].
وقال ابن عدي في الكامل في ترجمة عاصم بن ضمرة ما نصه: "وعاصم ابن ضمرة لم أذكر له حديثاً؛ لكثرة ما يروي عن علي مما تفرد به، ومما لا يتابعه
الثقات عليه، والذي يرويه عن عاصم قوم ثقات، البلية من عاصم، ليس ممن يروي عنه.
وفي الباب أخبار كلها لا تصح، وليس في الباب هنا أصح وأصرح من "بين كل أذانين صلاة"، وتقدم.
تنبيه:
روى الطبراني في الكبير والأوسط من طريق: حماد بن سلمة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظون»[9] ، رفعه علي بن عثمان اللاحقي، ورواه جماعة عن حماد بن سلمة موقوفا.
ورواه في الكبير، قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم، ثنا المسعودي، عن القاسم، عن لقيط بن قبيصة، قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «تحترقون، حتى إذا صلوا الفجر غسلت، ثم تحترقون حتى إذا صلوا الظهر غسلت، تحترقون حتى إذا صلوا العصر غسلت ..» حتى عد الصلوات كلها هكذا[10].
والصحيح وقفه على ابن مسعود؛ ولذا قال في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الثلاثة، إلا أنه موقوف في الكبير، ورجال الموقوف رجال الصحيح، ورجال المرفوع فيهم عاصم بن بهدلة، وحديثه حسن"[11].
ولذا قال المنذري في الترغيب والترهيب: "ورواه في الكبير موقوفا عليه، وهو أشبه"[12].
الهوامش:
[1] صحيح البخاري(627).
[2] فتح الباري(5/356).
[3] أخرجه أحمد (5980) وهو عند أبي داود الطيالسي (1936)، ومن طريقه أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وابن خزيمة (1193)، وابن حبان (2453)، وابن عدي في الكامل (6/ 2247)، والبيهقي في السنن (2/ 473)، والبغوي في شرح السنة (893).
[4] العلل (2/ 215).
وقال في الجرح والتعديل (8/ 78) ما نصه: "محمد بن مسلم بن المثنى، ويقال محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى: روى عن جده عن ابن عمرو عن حماد بن أبي سليمان، روى عنه يحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، وأبو قتيبة، وأبو الوليد الطيالسي، سمعت أبي يقول ذلك.
نا عبد الرحمن، نا محمد بن إبراهيم بن شعيب، نا عمرو بن علي، قال: ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديثاً سمعت يحيى بن سعيد يروى عن محمد بن مهران، عن جده، أن ابن عمر كان يقرأ في الوتر في الثانية بقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فأنكر ولم يرض الشيخ.
نا عبد الرحمن، قال: سمعت محمد بن إبراهيم، قال: سمعت أبا حفص عمرو بن علي يقول: محمد بن مهران يكنى أبا المثنى، روى عنه أبو داود الطيالسي أحاديث منكرة في السواك وغيره.
نا عبد الرحمن، قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين أنه قال: محمد بن مسلم بن مهران ثقة.
نا عبد الرحمن، قال: سألت أبى عن محمد بن مسلم بن مهران أبى المثنى، فقال: يكتب حديثه.
حدثنا عبد الرحمن، قال: سئل أبو زرعة عن محمد بن مسلم بن المثنى الذى يروى عن جده، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى قبل العصر «فقال: هو واهى الحديث".
وقال ابن عدي في الكامل: في ترجمة محمد بن مسلم: "ولم يرضه عبد الرحمن" يعني ابن مهدي، ثم روى له هذا الخبر، ثم قال: "ومحمد بن مسلم بن مهران هذا ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبين صدقه من كذبه".
[5] مسند أحمد (650)، وأخرجه عبد الرزاق (4806) عن سفيان، به، وأخرجه الترمذي (424) و (429)، وقال: حديث حسن، والبزار (675)، والطيالسي (128)، وعبد الرزاق (4806) و (4807)، ومحمد بن عاصم في جزئه (29)، والبزار (672)، والنسائي (2/ 120)، وفي الكبرى (337) و (347) و (471)، وابن ماجه (1161)، وأبو يعلى (622)، والبيهقي 2/ 473 .. من طرق عن أبي إسحاق به ..
قال البيهقي (3/ 72): تفرد به عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، وكان عبد الله بن المبارك يضعفه فيطعن في روايته هذا الحديث، والله أعلم وقال البزار (2/ 262): ولا نعلم يروى هذا الكلام وهذا الفعل إلا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا تحسين الترمذي - حسب - يدل على نكارته كما قد علم ذلك بالتتبع.
[6] زاد المعاد(1/301).
[7] الفتاوى الكبرى (2/258).
[8] ونقله الذهبي في الميزان (2/353)، ولم يتعقبه.
[9] المعجم الكبير (1/91)، والأوسط(2224).
[10] المعجم الكبير(8739).
[11] مجمع الزوائد(1/229).
[12] الترغيب والترهيب(1/144).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.