الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فلتقوية اليقين عند العبد وزيادته وثباته عليه أسبابٌ ووسائل؛ أهمها:
أولًا: تدبر القرآن الكريم، وبخاصة آيات توحيد الله تعالى وآيات عظمته، فإن معرفة الله عز وجل وتعظيمه في النفوس من أنفع الأسباب لتقوية اليقين.
ثانيًا: مداومة قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمطالعة في سنته، ومعرفة أخباره صلى الله عليه وسلم الدالة على دعوته وشفقته على أمته وصبره وجهاده من أعظم ما يقوي اليقين.
ثالثًا: قراءة نصوص الوعد والوعيد، الواردة في الكتاب والسنة، والتأمل في أوصاف الجنة وأوصاف أهلها، وأوصاف النار - أعاذنا الله منها - وأوصاف أهلها، وقراءة وفهم ما يدل على ما في القبر من أهوال عظيمة؛ كالفتنة والضمة ثم النعيم أو العذاب، كل ذلك من أقوى ما يزيد اليقين في النفوس.
رابعًا: القراءة فيما ثبت من قصص الأنبياء وأخبارهم، وبخاصة الآيات التي أُيِّدُوا بها من الله تعالى، ومنها المعجزات، وكذلك صبرهم وثباتهم في مواجهة أقوامهم، كل ذلك يقوي اليقين، فاقرأ أخي المسلم قصص نوح وهود وإبراهيم وموسى ومحمد عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام، وغيرهم من الأنبياء.
إنهم أكمل الناس يقينًا واطمئنانًا وثقة بنصر الله؛ فقد لاقوا من أقوامهم والسادة في عهودهم أقسى أنواع العنت والتكذيب والاستهزاء، فقابلوا ذلك بالإيمان والصبر والثقة بوعد الله تعالى واليقين بنصره سبحانه وتعالى، فصارت الغلبة لهم وتحقق مرادُهم.
خامسًا: معرفة أشراط الساعة، ما وقع منها وما لم يقع، وتكرار قراءة النصوص الدالة عليها وما تتضمنه من أهوال؛ كالدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، والخسوف والدخان، وطلوع الشمس من مغربها والدابة، والنار التي تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم.
سادسًا: دعاء الله تعالى والإلحاح بالدعاء بأن يقوي اليقين ويثبت القلب على الدين، كما جاء في الحديث السابق ذكره: ((سلوا اللهَ اليقينَ والمعافاةَ ...))([1])، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ اقسمٍ لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبينَ معاصيك، ومن طاعتِك ما تبلغُنا به جنتك ومنَ اليقينِ ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدنيا ...))([2]).
سابعًا: ومن أعظم ما يقوِّي اليقين ويثبت العبد عليه: النظر والتفكر في آيات الله الكونية ومخلوقاته العظيمة، في السماوات والنجوم والكواكب، والأرض وما فيها من جبالٍ وبحارٍ وأنهارٍ وأشجار وحيوانات ونحو ذلك.
تأمل تدبير الله لذلك كله، ومعرفة عظمة الله تعالى وعظيم قدرته؛ يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، ويقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
وتأمل قوله تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 1-10].
يقول السعدي في تفسير هذه الآيات - ما ملخصه -: يخبر تعالى خبرًا يتضمنُ الأمرَ بتعظيمِ القرآن والاعتناء به، أنه تنزيلٌ من الله، المألوه المعبود، لما اتصفَ به من صفاتَ الكمال، وانفردَ به من النعمِ، الذي له العزةُ الكاملةُ والحكمةُ التامةُ.
ثم أيَّد ذلك بما ذكره من الآياتِ الأفقيةِ والنفسيةِ، من خلقِ السماواتِ والأرضِ، وما بثَّ فيهما من الدواب، وما أودعَ فيهما من المنافع، وما أنزلَ اللهُ من الماء، الذي يحيي به اللهُ البلاد والعباد، فهذه كلُّها آياتٌ بيناتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ على صدقِ هذا القرآن العظيم، وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام، ودالات أيضًا على ما للهِ تعالى من الكمالِ، وعلى البعثِ والنشرِ.
ومن تدبَّر الآيات وتفكر فيها زاد يقينه وقوي إيمانه واطمأنت نفسه، بخلاف من أعرض عن تلك الآيات؛ ولهذا قسَّم اللهُ عز وجل الناسَ بالنسبة إلى الانتفاع بالآيات إلى قسمين:
قسمٌ يتدبرونها وينظرون فيها ويتفكرون بها فينتفعون ويرتفعون وهم المؤمنون العقلاء، حيث يصل بهم هذا النظر والتدبر والتفكر إلى درجة اليقين، فتزكو عقولهم وتطمئن نفوسهم وتزداد علومهم، ويندفعون إلى العبادة والاتباع ويجدون حلاوة الإيمان.
وقسمٌ يسمعُ آيات الله ثم يُعْرِضُ عنها ويستكبر، فلا يتدبرها ويتفكر بها، فيزداد طغيانًا بسبب استكباره عنها، بل إنه إذا علم من آيات الله شيئًا اتخذها هزوًا، فتوعده الله بالويل فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي كذاب في مقاله، أثيم في فعاله، وأخبر أن له عذابًا أليمًا وأن من ورائهم جهنم، وأنه لا يغني عنهم ما كسبوا من الأموالِ، ولا ما اتخذوا من دون اللهِ من أولياء يستنصرون بهم فيخذلونهم، في وقتٍ هم أحوج إليهم فيه لو كانوا ينفعون([3]).
وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 20- 23]، ففي هذه الآيات يدعو اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه إلى التفكر والاعتبار بالآيات والأنفس لعلهم يوقنون، وهو شاملٌ للتفكرِ في الأرض نفسها، وما فيها من جبالٍ وبحارٍ وأنهارٍ وأشجارٍ ونباتٍ، تدل للمتفكر فيها المتأمل لمعانيها على عظمةِ خالقها، وسعة سلطانه وعميم إحسانه، وإحاطة علمه بكل شيء ظاهرًا وباطنًا.
وكذلك التفكر في نفس العبد؛ فإن فيها من العبر والحكمة ما يدل على وحدانية الله، وأنه المستحق للعبادة دون سواه، وأنه لم يخلق الخلقَ سدى، بل خلقهم لغاية عظيمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، والتفكر في ذلك كله يزيد اليقينَ ويقويه، فيدفع إلى العمل والعبادة بكل اطمئنانٍ وراحةِ نفس([4])، ثم قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي مادة رزقكم من الأمطار وصنوف الأقدار، وهو رزقٌ دينيٌّ ودنيوي، ثم قال: {وَمَا تُوعَدُونَ} من الجزاء في الدنيا والآخرة.
فلما بيَّن الآيات ودعا إلى التفكر فيها، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبَّه ذلك بأظهر الأشياء وهو النطق فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث والجزاء؛ فدلَّ على أن العاقل اللبيب الذي يتأمل في الأنفس والآيات يزداد يقينُه ويقوى إيمانُه بالله تعالى واليوم الآخر، ولا يعتريه أي شك ولا ريب.
ثامنًا: ومن وسائل تقوية اليقين مجالسة العلماء والصالحين، وحضور مجالس الذكر ودروس العلم؛ فإن ذلك مما يقوي اليقين ويرسخه في النفوس، ويصرف عنها أسباب الشبهات والخواطر الرديئة.
تاسعًا: العلم الجازم الذي لا تعارضه شبهةٌ أو يزعزعه شكٌّ، وهذا لا يتحصل إلا بالصبر وترك العجلة، وبذل الجهد في طلب العلم، والسعي لتحصيله، مع حسن الارتباط بالله عز وجل قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، (وقُل يا محمد: ربِّ زدني علمًا إلى ما علمتني، أمره بمسألته في فوائد العلمِ ما لا يعلم)([5]).
فاللهُ تعالى هو العليم الخبير الذي له العلم المطلق، وكل معلوم في هذا الوجود هو من علم الله تعالى، ولا يصل الإنسان لحقيقة العلم إلا من خلال تعليم الله تعالى له؛ كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31-33].
فالأصل في الإنسان الجهالة، إلا ما علَّمه الله تعالى، وبدون هذه القاعدة المعرفية لن يصل الإنسان إلى اليقين في علمه، وإن بدا له أن معه شيئًا من العلم، فهو علمٌ ظاهرٌ لا قيمة له، إذ إنه لا يزيد المرءَ إلا غفلةً وجهالةً، ويبعده عن اليقين؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]، وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
عاشرًا: العمل بمقتضى العلم؛ تقدم معنا في تعريف اليقين أنه العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل، فالغاية من العلمِ العملُ به، ومن تعلَّم ولم يعمل وقعَ في الغفلة التي توجب الإعراض عن الحق؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
قال الطبري: (قوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حده، فضيع بذلك الحق وهلك)([6])، ومن أعظم أسباب ترك العمل نسيان العلم، والغفلة عن ذكر الله تعالى، والاستسلام لوساوس الشيطان ونزغه وتخيالاته وأوهامه، ليبقى الإنسان في دائرة لجهل.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.