الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛..
دخول وقت العشاء بمغيب الشفق
وامتداده إلى نصف الليل على الصحيح ويدخل وقت العشاء - كما تقدم - بغياب الشفق الأحمر، ويمتد - في أصح الأقوال - إلى نصف الليل، هذا هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة، وليس مع من قال بامتداده إلى طلوع الفجر - ولو للضرورة - دليل يصلح للتمسك به، فضلا عن رجحانه.
وتقدم حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - وفيه: «فإذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل»
قال ابن رجب: "في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال:
أحدها: ربع الليل: حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق.
والقول الثاني: إلى ثلث الليل: روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.
والقول الثالث: إلى نصف الليل: وروي عن عمر بن الخطاب أيضا، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور - أيضا.
وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه.
وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا.
والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر: رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر، وهو قول داود، ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار، وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتدا إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا، وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.
وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب.
وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين.
واختلفوا في تأخير العشاء اختيارا إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة.
ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه.
وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز.
واستدل من لم يحرمه بما في صحيح مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي».
وهذا إن كان محفوظا دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد.
وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله: «الوقت ما بين هذين».
ومثل حديث بريدة - رضي الله عنه - الذي فيه أن سائلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال: «ما بين هذين وقت». وقد خرجه مسلم، وخرج نحوه من حديث أبي موسى.
وخرج أيضا من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل».
وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة.
وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء.
وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة.
وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة. والله أعلم"[1].
وقال في الشرح الممتع ما نصه: "والدليل على أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى». قالوا: فهذا دليل على أن أوقات الصلاة متصلة، وإذا كان كذلك فآخر وقت العشاء الآخرة وقت طلوع الفجر
ولكن هذا ليس فيه دليل؛ لأن قوله: «إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»، يعني: فيما وقتاهما متصل، ولهذا لا يدخل فيه صلاة الفجر مع صلاة الظهر بالإجماع، فإن صلاة الفجر لا يمتد وقتها إلى صلاة الظهر بالإجماع. وإذا لم يكن في هذا الحديث دليل؛ فالواجب الرجوع إلى الأدلة الأخرى، والأدلة الأخرى ليس فيها دليل يدل على أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، بل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث جبريل، يدلان على أن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل.
وهذا الذي دلت عليه السنة، هو الذي دل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، أي: من دلوك الشمس، لكن أتى باللام للدلالة على أن دخول الوقت علة في الوجوب، أي: سبب، ولهذا قال الفقهاء: الوقت سبب لوجوب الصلاة، وشرط لصحتها. والدليل على أن اللام بمعنى (من): الغاية (إلى)، والغاية يكون لها ابتداء، كأنه قال: من دلوك الشمس إلى غسق الليل، لكن أتى باللام إشارة إلى أن دخول الوقت علة الوجوب، ويكون غسق الليل عند منتصفه؛ لأن أشد ما يكون الليل ظلمة في النصف، حينما تكون الشمس منتصفة في الأفق من الجانب الآخر من الأرض. إذاً من نصف النهار الذي هو زوالها إلى نصف الليل جعله الله وقتا واحدا؛ لأن أوقات الفرائض فيه متواصلة، الظهر، يليه العصر، يليه المغرب، يليه العشاء، إذا ما بعد الغاية خارج، ولهذا فصل فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ففصّل وجعل الفجر مستقلا، فدل هذا على أن الصلوات الخمس أربع منها متتالية، وواحدة منفصلة.
فالصواب إذا: أن وقت العشاء إلى نصف الليل" [2]
وإذا تقرر هذا أصبح ما بعد نصف الليل بالنسبة للعشاء كما بعد طلوع الشمس بالنسبة للفجر ولا فرق .. في خروج وقت الصلاة ..
تكميل: ونصف الليل بالساعات يعلم بحساب ما بين وقت الغروب ووقت دخول صلاة الصبح، فيجمع ويقسم على اثنين.
مثاله: إن كانت الشمس تغيب الساعة (6:40) دقيقة -كما في الصيف مثلا- ويطلع الفجر الساعة (3:40)، فعدد ساعات الليل: تسع ساعات، ونصفها أربع ساعات ونصف. إذن نصف الليل: الساعة (11:10)، فافهم يا مسلم!
تأخير العشاء أفضل حيث لا مشقة فيه
وتأخيرها أفضل حيث لا مشقة على الناس.
قال في المغني: "فصل استحباب تأخير العشاء، فصل: وأما صلاة العشاء فيستحب تأخيرها إلى آخر وقتها إن لم يشق، وهو اختيار أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين. قاله الترمذي، وحكي عن الشافعي أن الأفضل تقديمها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الوقت الأول رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله» وروى القاسم بن غنام، عن بعض أمهاته، عن أم فروة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها». ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يؤخرها، وإنما أخرها ليلة واحدة، ولا يفعل إلا الأفضل.
ولنا قول أبي برزة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي يدعونها العتمة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» وهو حديث حسن صحيح، وأحاديثهم ضعيفة.
أما خبر "الوقت الأول رضوان الله" فيرويه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وحديث أم فروة رواته مجاهيل، قال أحمد - رحمه الله -: لا أعلم شيئا ثبت في أوقات الصلاة: أولها كذا، وأوسطها كذا، وآخرها كذا يعني مغفرة ورضوانا، وقال: ليس ذا ثابتا.
ولو ثبت فالأخذ بأحاديثنا الخاصة أولى من الأخذ بالعموم، مع صحة أخبارنا، وضعف أخبارهم.
فصل: وإنما يستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة راضين بالتأخير؛ فأما مع المشقة على المأمومين أو بعضهم فلا يستحب، بل يكره. نص عليه أحمد - رحمه الله -، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كم قدر تأخير العشاء؟ فقال ما قد بعد أن لا يشق على المأمومين.
وقد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأخير العشاء، والأمر بتأخيرها، كراهية المشقة على أمته، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من شق على أمتي شق الله عليه» وإنما نقل التأخير عنه مرة أو مرتين، ولعله كان لشغل، أو إتيان آخر الوقت، وأما في سائر أوقاته فإنه كان يصليها، على ما رواه جابر - رضي الله عنه - أحيانا، وأحيانا إذا رآهم قد اجتمعوا عجل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخر. وعلى ما رواه النعمان بن بشير، أنه كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة. فيستحب للإمام الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى هاتين الحالتين، ولا يؤخرها تأخيرا يشق على المأمومين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالتخفيف، رفقا بالمأمومين، وقال: «إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأخففها كراهية أن أشق على أمه» متفق عليه"[3].
راتبة العشاء، وأنه لا تشرع معها نوافل أسبوعية أو حولية
ويسن أن يصلي بعد العشاء ركعتين، وهما من الرواتب، وقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من طريق عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته»[4]. وسجدتين: أي ركعتين.
وراتبة العشاء هي آخر السنن الراتبة اليومية، وليس بين أيام الأسبوع فرق سوى يوم الجمعة وتقدم.
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: "ما يذكره بعض المصنفين في الرقائق والفضائل في الصلوات الأسبوعية، والحولية:
كصلاة يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، والسبت، المذكورة في كتاب أبي طالب، وأبي حامد، وعبد القادر، وغيرهم.
وكصلاة الألفية: التي في أول رجب، ونصف شعبان.
والصلاة الاثني عشرية: التي في أول ليلة جمعة من رجب.
والصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب.
وصلوات أخر تذكر في الأشهر الثلاثة.
وصلاة ليلتي العيدين.
وصلاة يوم عاشوراء.
وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه أن ذلك كذب عليه، ولكن بلغ ذلك أقواما من أهل العلم والدين، فظنوه صحيحاً، فعملوا به، وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم، لا على مخالفة السنة، وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها فهو ضال مبتدع، بل كافر"[5].
الهوامش:
[1] فتح الباري لابن رجب(4/403).
[2] الشرح الممتع (2/117).
[3] المغني (1/284).
[4] صحيح البخاري(1172)، وصحيح(729).
[5] الفتاوى الكبرى(2/358).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.