إن الله خلق الخلق؛ ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلةَ الدالة على عظمته وكبريائه؛ ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدةَ عذابه ودارَ عقابه التي أعدها لمن عصاه؛ ليتَّقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكرَ النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
ودعا عبادَه بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، ومن تأمل سيرَ السلف الصالح - أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان -؛ علم أحوالَ القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، وأن ذلك هو الذي أوصلهم إلى تلك الأحوال الشريفة، والمقامات السنيات؛ من شدة الاجتهاد في الطاعات، والانكفاف عن دقائق الأعمال والمكروهات، فضلًا عن المحرَّمات.
إن المؤمن في هذه الحياة لا غنى له عن أمرين حتى يلقى اللهَ - تعالى -؛ الخوف والرجاء، فهو يحب ربَّه ويرجوه، ويخافه ويخشاه ولا يعصيه، وهما جناحان لا غنى للعبدِ عنهما، كجناحي الطائر إذا استويا؛ استوى الطير وتمَّ طيرانه، وإذا نقص أحدُهما وقعَ فيه النقص، وإذا ذهبا صارَ الطائر في حدِّ الموت.
ولقد جاء في السنة موقفٌ من مواقف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّته عن هذين الأمرين؛ لكي يقف العبد عندهما ويجعلهما نُصْب عينيه، فلا يغفل عنهما؛ فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل على شابٍّ وهو في الموت، فقال: ((كيفَ تجدكَ؟))، قال: أرجو اللهَ يا رسول الله، وإني أخافُ ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطن، إلا أعطاه اللهُ ما يرجو وأمَّنه مما يخاف))([1]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ، فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ؛ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ؛ فَغَفَرَ لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ))([2]).
ولقد ذكر اللهُ - تعالى - في كتابه آيات كثيرة تدل على عِظَم شأن الخوف، وأنه منزلة لازمة للمؤمن في حياته الدنيا؛ لكي يصل إلى رضا الله - تعالى – وجنته، وكلما زاد خوفُ العبد من ربِّه؛ زاد عملُه، وقَلَّ عُجْبه، وقَلَّت معصيتُه، وكلما قلَّ خوف العبد من ربِّه؛ نقص عملُه، وزاد عُجْبُه، وكثرت معصيته.
فالخوف صفةٌ بارزة من صفات عباد الله الصالحين، لا غنى لهم عنها في مسيرهم إلى الله تعالى، فتراهم يؤدون حقوق الله وهم خائفون وجلون من عدم قبولها، فهم أحرص الناس على طاعةِ ربهم، والمسارعة إلى رضاه، والبعد عن معصيته، والفرار من سخطه وغضبه، إلا أنهم يخافون من عدم قبول أعمالهم.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (إن الخوفَ من المقامات العليةِ، وهو من لوازم الإيمان؛ قال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ لأنا أعلمُكُم باللهِ وأخشاكُم لَه))([3]).
وكلما كان العبد أقرب إلى ربِّه كان أشد له خشية ممن دونه، وقد وَصَفَ اللهُ تعالى الملائكةَ بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، والأنبياءَ بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يُطالبون بما لا يُطالب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة)([4]).
ولقد كان خوف إمام المرسلين وقدوة العالمين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم عبرةً للمسلمين جميعًا؛ كي يتعلموا منه، ويأخذوا حذرهم من الغفلة والإعراض عن الله، وهو مَن هو بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا للَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ))([5]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.