الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ ثم أما بعد، يعتقد كثير من الغلاة أن الأنبياء عليهم السلام توسلوا بحق وجاه وذات المصطفى صلى الله عليه وسلم الشريفة قبل أن يخلق، ويوردون في ذلك أحاديث إما موضوعة، وإما ضعيفة ولا يحتج بها، وإما صحيحة لكنها لا تدل على المراد أصلا.
فمن تلك الأحاديث ما أورده السبكي في شفاء السقام مستدلا به على ما ذهب إليه من القول بتوسل الأنبياء عليهم السلام بحق نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق، حيث يقول:
"يدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته وهو ما رواه الحاكم في المستدرك"[1] ثم ساق السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟
قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيديك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" قال الحاكم بعد روايته للحديث:" هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم"[2].
هذا النص من الأهمية بمكان وذلك للآتي:
-لمكانة السبكي الحديثية عند القوم، ولأنه أكثر القوم خوضا في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، وأن جل من خاض في المسائل من القوم عالة عليه[3].
-ولرواج ذلك على الناس.
-ولقول السبكي:" اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته" فمفهوم كلامه أن غير ما ذكره ضعيف عنده، وعليه يسقط الاستدلال بجميع الآثار الأخرى التي جاءت في هذا المعنى، وبالتالي سأقتصر على بحث ما صححه فقط وهو حديث الحاكم الذي أورده، وذلك من خلال القاط الآتية
النقطة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث وتصحيح الحاكم
المسألة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
بالنظر إلى سند الحديث نجد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعفه كل من النسائي[4]، والدارقطني[5]، والعقيلي[6]، والبيهقي[7].
وقال فيه البخاري:" ضعفه علي-يعني علي ابن المديني- جدا"[8].
وقال ابن حبان:" كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، واسناد الموقوف فاستحق الترك"[9].
بل قال الحاكم نفسه عنه:" وروي عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على ما تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه"[10].
فكون الحاكم يتهم عبد الرحمن بن زيد بالوضع، ثم يصف روايته للحديث موضوع الدراسة بالصحة هو الذي جعل ابن حجر يتعجب من صنيعه.
حيث يقول:" ومن عجيب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال بعد روايته: هذا صحيح الإسناد وأول حديث ذكرته لعبد الرحمن مع أنه قال في كتابه الذي جمعه عن الضعفاء: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة-ثم ذكر قول الحاكم السابق-قال: فكان هذا من عجائب ما وقع له من التساهل والغفلة"[11].
المسألة الثانية: محصلة الحكم على الحديث:
قال ابن تيمية:" ليس له أصل"[12].
وممن حكم عليه بالوضع من المعاصرين: محمد ناصر الدين الألباني[15].
المسألة الثالثة: الكلام على تصحيح الحاكم:
لا يخفى على طلبة العلم إمامة الحاكم النيسابوري في علم الحديث، وما له من تصانيف عديدة في ذلك، منها المستدرك على الصحيحين، الذي قال في شأنه:" وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة"[16].
إلا أنه رحمه الله توسع في شرطه، وتساهل في حكمه على أحاديث بالصحة وهي على غير ذلك.
قال عنه ابن الصلاح:" وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به"[17].
وهذا فيما ينصل الحاكم أنه على شرطهما، أم التي يصححها دون أن يذكر أنها على شرط الشيخين، أو أحدهما فيحكم فيها على الحديث بحسب حاله: من الحسن، أو الصحة، أو الضعف[18].
وقد ذكر ابن حجر مثل هذا النوع من الأحاديث في القسم الثالث من تقسيمه لأحاديث المستدرك: وهو الذي اشتمل على أحاديث يكون إسنادها مما لم يحتج به الشيخان لا في الاحتجاج ولا في المتابعات.
حيث يقول:" وقد أكر منه[19] الحاكم فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححهما، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما، وربما ادعى ذلك على سبيل الوهم، إلى أن قال: ومن هنا دخلت الآفة كثيرا فيما صححه، وقل أن تجد في هذا القسم حديثا يلتحق بدرجة الصحيح فضلا عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين"[20].
وقال عنه في اللسان:" إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك فما أدري هل خفيت عليه؟
فما هو ممن يجعل ذلك، وإن علم فهو خيانة عظيمة، إلى قال: والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء لكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغيير وغفلة في آخر عمره، ويدل على أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها، ومن ذلك أنه أخرج حديثا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم..."[21].
وعبد الرحمن بن زيد هذا هو الذي عليه مدار سند الحديث موضوع الدراسة، قد مر بنا قول الحاكم فيه وتعليق ابن حجر عليه عند ذكر أقوال علماء الجرح والتعديل في بيان حال عبد الرحمن.
وقال ابن تيمية:" ولهذا كان أهل العلم لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه"[22].
لذا فلا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده.
وعليه يسقط الاحتجاج بالحديث سندا ومتنا، ويدل على ذلك مخالفته للثابت من نصوص الشرع.
الهوامش:
الهوامش:
[1] شفاء السقام في زيارة خير الأنام (161-162).
[2] المستدرك (2/615).
[3] انظر: ابن حجر الهيتمي: الجوهر المنظم (8)، أحمد زيني دحلان: الدرر السنية (10)، يوسف النبهاني: شواهد الحق (139)، محمد علوي المالكي: مفاهيم يجب أن تصحح (46)، راشد بن إبراهيم المريخي: إعلام النبيل (24) وغيرهم.
[4] الضعفاء والمتروكون للنسائي (158).
[5] الضعفاء والمتروكون للدراقطني (336).
[6] العقيلي(2/331).
[7] انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/489).
[8] البخاري: الضعفاء الصغير (456).
[9] ابن حبان: كتاب المجروحين (2/57).
[10] الحاكم النيسابوري (المدخل إلى الصحيح) (154).
[11] النكت (1/317-319).
[12] الدر على البكري (9-10).
[13] التلخيص (2/615).
[14] ميزان الاعتدال (2/504).
[15] السلسة الضعيفة (1/38).
[16] المستدرك (3/2).
[17] مقدمة ابن الصلاح (18).
[18] انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للعراقي (18).
[19] أي من القسم الثالث.
[20] ابن حجر: النكت على كتاب ابن الصلاح (317-318).
[21] لسان الميزان (5/233)، وانظر: تدريب الراوي للسيوطي (1/106).
[22] قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (170).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.