الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ شبهةٌ في كونِ تعريفهم للعبادة ومعنى (لا إله إلا الله) يعدُّ شبهةً في نفسه، وذلك لمَّا كان قيدُ التعريف اعتقادَ الربوبيةِ واستحقاقَ العبادة في المعبودِ، فصاروا بذلك ينفون ما يقعُ فيه كثيرٌ من الناس من الاستغاثةِ بالأموات ودعائِهم والذبحِ والنذرِ لهم ونحوِ ذلك من أنواع العبادات، فصاروا ينفون أن يكون ذلك صرفًا لشيءٍ من العبادةِ لغير الله تعالى، إن لم يكن ذلك عندهم من تعظيمِ شعائرِ الله تعالى التي أمر بها وجعلها من تقوى القلوب، معلِّلين ذلك أن هذه الأقوال والأفعال لم تنبعث من قلوبٍ تعتقدُ استقلالَ التأثيرِ والتدبيرِ فيمن توجهت إليه.
الرد:
أولًا: هذا مخالفٌ لما جاء في نصوصٍ كثيرة، من أن المشركين السابقين كانوا مقرِّين بوحدانية الله تعالى في الخلق، وأن له ملك السماوات والأرض، وأنه مدبرُ الأمرِ وحده، وأن الأصنامَ التي كانوا يعبدونها لم تكن عندهم سوى شفعاء يشفعون لهم عند الله، ولم يكن لها من الملكِ والتدبيرِ شيء، وقد تنوَّعت الدلالات في كتاب اللهِ في تقريرِ هذا المعنى؛ ومن ذلك:
o ما يدلُّ على أن اعتقادِهم قائم على إفراد الله تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمَّى الله تعالى ما يصرفونه للأصنام والأوثان عبادة منهم لها؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
o الإخبارُ بتصريحِ المشركين أن عبادتهم لما اتخذوه من دون اللهِ أولياء إنما هو لطلب القربى والزلفى عند الله تعالى، وأنهم شفعاء لهم عند اللهِ تعالى، وأنهم وسائط لهم في قضاء حوائجِهم؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
o إثباتُ نوع إيمانٍ للمشركين مع شركهم، وهذا راجع إلى إيمانِهم بتفردِ اللهِ تعالى بالخلقِ والتدبيرِ، وأنهم أشركوا بعبادةِ غيره معه؛ قال تعالى: {وَمَايُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وهذا الإيمانُ هو اعترافهم بأن الله تعالى هو خالقُهم ورازقُهم ومدبرُ شئونهم، والشركُ الذي وقعوا فيه هو عبادتهم غيره.
o الإيمانُ المنسوبُ لهم هو الإيمان اللغوي بمعنى التصديقِ والإقرارِ بذلك المعنى، وليس هو الإيمانُ الشرعي الذي به تكون النجاة من الكفرِ وعواقبِه.
ثانيًا:أن ما ذكروه مخالفٌ لدلالةِ اللغة؛ حيث جعلوا معنى (الرب) هو معنى (الإله)، مع أنهما معنيان متغايران في اللغةِ، فـ (الإله) عند أهلِ التفسيرِ واللغةِ أنه المعبود، وقد أطلق على ما كان يعبده المشركون آلهةً باعتبارِ أنها عُبِدَت مع اللهِ تعالى لا أنها مستحقةً لذلك أو أنها خالقةً ومدبرة، أما (الرب) فبمعنى مالكِ الشيءِ وصاحبه، ولا تُطْلَق هكذا بالتعريفِ دون الإضافةِ إلا على الله عز وجل؛ لأنه خالق كلِّ شيء ومالكه، أما ملكية غيره لشيء من المخلوقات فربوبيته نسبية بذلك التملُّك.
ثالثًا:أن ما ذكروه في ذلك وقيَّدوه باعتقاد الربوبية في المعبودِ يقتضي أن يكون قومُ موسى لمَّا اتخذوا العجلَ وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى؛ أنهم يعتقدون أن هذا العجلَ خالقًا رازقًا مستقلًّا بالتدبيرِ.
وكذلك لما طلبوا إلهًا كما قصَّ الله تعالى عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَ ابِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، أنهم يريدون من يعتقدون فيه الخلقَ والتدبيرَ غيرَ اللهِ تعالى، هذا لازم لقيدهم الذي ذكروه، وهو باطل، وقد حاجَّهم اللهُ تعالى بما يعلمونه يقينًا من حال العجل؛ فقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].
رابعًا: أن ذلك يقتضي أن لا يكون هناك أقوالٌ ولا أعمالٌ شركية بذاتها، ولا يُحْكَم على أحدٍ بشرك إن اقترفه ما لم يُظهِر ما في باطنه، وأنه معتقدٌ استقلالَ الخلقِ والتدبيرِ فيمن يصرف إليه أقوالَه وأعمالَه التي هي من أعمال المشركين وأقوالهم؛ فدعاءُ غيرِ الله تعالى والسجود والركوع له والذبح والنذر له - على هذا - ليس من الشركِ في شيءٍ، إلا إذا عرف ما يقوم في باطن صاحبِ هذه الأعمال، فإن كان فاعلُها معتقدًا ربوبيةَ من دعاه أو سجدِ له أو صرفِ له شيئًا من تلك العبادات كان ذلك في حقِّه شركًا بربه، وإن خلا من ذلك فليس له من اسم الشركِ وحكمِه نصيب.
خامسًا: أن اعتقادَ الربوبيةِ في غيرِ الله تعالى هو شركٌ في نفسه، سواء صاحَبَه قولٌ أو عملٌ أم لا، فمن لم يقر للهِ تعالى بوحدانيته في ربوبيته فهو مشركٌ ضال، حتى لو لم يصرف شيئًا من العبادات لغيرِ الله تعالى؛ وعليه فحمل النصوصِ الدالة على حصولِ الشرك ببعضِ الأقوالِ والأفعالِ على ذلك الاعتقاد فيه تعطيلٌ لما تعلَّق بتلك الأقوالِ والأفعالِ من حكم، وصار ذكرُها وعدمُه سواء، إذا لا أثر لها في الحكمِ فهو مقتصرٌ على اعتقادِ الربوبية فيمن صُرفت له.
سادسًا: أن ما ذكروه في تعريفِ العبادةِ ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، أقروا به ما وقع فيه كثيرٌ من الناسِ من دعاءِ الأموات والاستغاثةِ بهم، وصرف أنواع العبادة لهم بحجةِ أنهم لم يفعلوا ذلك إلا توسلًا وتشفعًا عند اللهِ تعالى دون أن يكون في بواطنهم اعتقادُ التدبيرِ والتصرفِ في الكون في هؤلاء الأموات وغيرهم، ومن تأمل كتبَ المبتدعةِ من الصوفيةِ وأمثالِهم يجدُ صراحةَ هذا الأمر تنطق به ألسنتُهم وتحكيه أحوالُهم، حتى جعلوا للأولياء مراتب يقتسمون فيها التأثيرَ والتصرفَ في هذا الكون كلٌّ بحسب مرتبته([1]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.