الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.. أما بعد: فإن التوسل بالذوات الفاضلة مما انتشر في أدعية الصوفية انتشاراً واسعاً مع ، حتى كاد أن لا يخلو منه دعاء من أدعيتهم وهم يزعمون مشروعيته واستحبابه مع وضوح مخالفته ، ونحن نوجز هنا الأدلة الدالة على مخالفته وبالله التوفيق وعليه التكلان.
1- إن الدعاء من أهم العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف، والتوسل بالذوات لم يشرع في كتاب ولا سنّة صحيحة صريحة، فهو بدعة لا يجوز التعبد به في الدعاء الذي هو من أهم العبادات، وقد سبق كيف نهى الشارع الحكيم عن الابتداع في الدين وحذر من ذلك أشد التحذير، فدين الإسلام مبني على أصلين عظيمين: ألا نعبد إلا الله وألا نعبده إلا بما شرع، فلم يثبت أن الله شرع لنا التعبد بالتوسل بالذوات فلا يجوز التعبد به.
2- إن الله[1] سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه أدعية الأنبياء وأتباعهم وهي كثيرة جداً، فلم يذكر في واحدة منها هذا التوسل البدعي، وإنما الذي ذكره الله هو التوسل المشروع وهو التوسل بالإيمان والعمل الصالح.
ولنضرب نماذج من أدعية الأنبياء وأتباعهم حتى تتضح الصورة الصحيحة للتوسل المشروع ولا يلتبس الحق بالباطل.
من ذلك دعاء يوسف عليه السلام: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف:101]، فقد توسل يوسف عليه السلام بالثناء على الله تعالى بما أنعم عليه من الملك وعلم الرؤيا، كما توسل باسم من أسماء الله تعالى وهو فاطر السموات والأرض، وتوسل بولاية الله له، وهذا هو التوسل المشروع ولم يتوسل بالأنبياء السابقين قبله من آبائه الكرام وغيرهم فلم يقل: [اللهم إني أسألك بجاه أو منزلة أو شرف آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام].
ومن ذلك دعاء سليمان عليه السلام: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)) [النمل:19]، فقد سأل الله تعالى وتوسل إليه برحمته التي هي من صفاته العليا أن يدخله في عباده الصالحين ولم يتوسل إليه بآبائه إبراهيم ومن بعده إلى داود عليهم السلام.
ومن ذ لك دعاء أيوب عليه السلام: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) [الأنبياء:83]، فقد توسل إلى الله تعالى بكونه أرحم الراحمين، وهو توسل بالأسماء الحسنى ولم يتوسل بآدم ولا نوح ولا الملائكة المقربين ولا بحملة العرش كما يفعله المولعون بالتوسل المبتدع.
وإذا تجاوزنا أدعية الأنبياء عليهم السلام إلى أدعية أتباعهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه نجدهم يتوسلون إلى الله تعالى بالتوسل المشروع ولا نجد حرفاً واحداً من توسلهم بأنبيائهم مع أنهم بلا شك يحبون أنبيائهم أكثر من غيرهم.
فمن أمثلة ذلك: ما ذكره الله تعالى عن الحواريين الذين مع عيسى عليه السلام قال تعالى: ((فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران: (52-53)]، فقد توسلوا بإيمانهم بما أنزل الله وباتباعهم الرسول عيسى عليه السلام، ولم يتوسلوا بذات عيسى ولا بجاهه ولا بحرمته ولا شرفه.
3- إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل خير، ومما علمها الأدعية المباركة، وقد جمعها علماء السنّة المشرفة، فبعضهم جمعها ضمن الموضوعات المتفرقة كأصحاب السنن الستة والمسانيد والمعاجم، وبعضهم جمعها في مؤلف مستقل.
وهؤلاء الجامعون للأدعية النبوية لم ينقلوا حرفاً واحداً من توسل النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء السابقين بطريق صحيح صريح، كما لم يذكروا أنه أمر أصحابه بالتوسل به وبجاهه أو بجاه الأنبياء السابقين وشرفهم، ولا نجد في تلك الأدعية المباركة، التوسل المبتدع الذي يلهج به المتأخرون والذي لا يخلو منه دعاء من أدعيتهم.
4- قد ذكر علماء السنة والآثار أدعية الصحابة والتابعين، فإذا بحثنا فيها فلا نجد توسلهم بحبيبهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم، ولا نجد توسلهم بكبار الصحابة أبي بكر وعمر، فهل ترى أن المتأخرين يحبون النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منهم؟ كلا.
5- إن التوسل بالذوات لو كان جائزاً عند الصحابة لما جاء الأعمى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بل جلس في بيته وتوسل بجاهه، ولما عدل عمر وَمن معه إلى العباس ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يطلب من أويس القرني الاستغفار بل كان يكفيه أن يقول: اللهم أني أسألك بحق أويس القرني[2].
إن التوسل المبتدع قد حذر منه السلف ضمناً، مع أنه لم يقع في زمانهم الابتداع بالتوسل ونحوه إلا بصورة نادرة إذا قارناه بما وقع للمتأخرين، هذا على فرض ثبوت ما يروى عن بعضهم من التوسل بالذاوات وإلا فيظهر أنه لم يقع التوسل المبتدع إلاَّ في القرون المتأخرة.
فإذا كان السلف ينكرون على من يقول: يا سبحان يا غفران ونحو هذا[3] مع أنه إنما نادى صفة من صفات الله وأراد التوسل بها إلى الله تعالى، فكيف يكون إنكارهم على من ينادي الولي أو القبر متوسلاً به إلى الله تعالى؟ بل كيف يكون إنكارهم على من يطلب المدد والاستغاثة من دون الله تعالى؟
ومن السلف الذين أنكروا الابتداع في الأدعية الإمام مالك رحمه الله، فإنه كان يكره أن يقول الداعي يا سيدي! بل يقول كما قالت الأنبياء: يا رب! كما أنكر[4] غير هذا مما ابتدع في الدعاء في زمانه، فإذا كان مالك إمام دار الهجرة يكره في الدعاء إلا متابعة الأنبياء في قولهم مع صحة المعنى في نحو يا سيدي، فكيف تكون كراهة مالك للتوسل المبتدع بل ولطلب المدد؟ فلا يشك عاقل أن كراهته له أشد.
7- إن الذي يتوسل[5] في الدعاء يعتقد أنه مشروع في الدعاء وينوي به التعبد والتقرب والطاعة وأنه مما يستجاب به الدعاء، وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباَ وإما أن يكون مستحباً، إذ العبادات لا تكون إلا أحدهما، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة ودعاء الله تعالى عبادة، والتوسل بالذوات ليس بواجب ولا مستحب، فثبت بهذا كون التوسل بالذوات غير عبادة، فهو إذاً بدعة.
8- إن العلماء اختلفوا[6] في مسألة دعاء الله تعالى والتوسل إليه بغير التسعة والتسعين اسماً التي وردت في الحديث، فمن العلماء من قال: لا يدعى بغير التسعة والتسعين وإن كان يسمى بها ويخبر بها عنه، فالدعاء لا يجوز إلا بما في هذا العدد، فهذا القول وإن كان مرجوحاً لكن المقصود أنه إذا كان العلماء منهم من يجيز الدعاء بغير التسعة والتسعين مع ثبوت كونه من الأسماء الحسنى، دل هذا على تشدد العلماء في باب الدعاء وتحذيرهم من الابتداع فيه، فيدل هذا على أنه لا يجوز من باب أولى دعاء الله تعالى بما لم يثبت كونه من الأسماء الحسنى ولا من صفاته نحو الأنبياء والأولياء، وذلك لأن الله تعالى قيد دعاءه بالأسماء الحسنى، فقال: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180]، ففي هذه الآية أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها، كما قال تعالى: ((ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ)) [الأحزاب:5]، فهو نهى أن يدعوا لغير آبائهم، وفي هذه الآية أيضاً أن الله تعالى لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، فالحسنى اسم تفضيل، أي: لا يدعى إلا بالاسم الأحسن، وأما الاسم الحسن أو الذي ليس بسيء وإن لم يحكم بحسنه فلا يدعى به وإن كان يجوز ذلك في باب الإخبار عنه، وأما في باب الدعاء فلا.
9- إن علماء السلف رحمهم الله تعالى قد فهموا من أحاديث الاستعاذة بالله وكلماته أنه لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق.
وكذلك ينبغي لنا أن نفهم مما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوسل بأسماء الله تعالى أنه لا يجوز التوسل بذوات المخلوقين.
فكلا المسألتين- متطابقة والمأخذ واحد.
10- إن السؤال بالذوات سؤال بسبب لا يقتضي المطلوب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل السؤال بالذوات سبباً لحصول المطلوب؛ لأنه سؤال بذات لا رابط بينها وبين ذات السائل، لأن السائل إذا توسل بإيمانه وأعماله الصالحة فقد توسل بسبب له علاقة وارتباط به؛ لأن أعماله له الأجر عليها، ومن ذلك إجابة الدعاء، وأما ذات مخلوق آخر فأي وسيلة بينهما وأي علاقة تربطهما؟[7].
اللهم إلا إن توسل بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته له أو محبته للصالحين، ولكن هذا القصد قلما يخطر ببال المتوسلين بالذوات.
وحاصل هذا الوجه أنهم يقولون: إن التوسل سبب لإجابة الدعاء، فهم مطالبون بأمرين: أحدهما: الدليل على أنه سبب لتحصيل الإجابة، وثانيهما: الدليل على أنه سبب مشروع لا يحرم فعله، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سبباً لأخذ ماله وكلاهما محرم[8].
وهؤلاء المدافعون عن مشروعية التوسل ليس لديهم الأدلة الكافية لإثبات هذين الأمرين إلا بعض الشبهات.
11- إن اعتقاد مشروعية التوسل بالذوات أدى إلى مفاسد جسيمة وعواقب وخيمة، وما كان كذلك فلا يمكن أن يشرعه الله تعالى؛ لأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت بترجيح المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وإزالتها، فثبت بهذا أنه بدعة لم يشرعه الله تعالى.
12- التوسل بالذوات هو مثل الإقسام بالذوات، وقد ورد النهي عن القسم بمخلوق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}. فكما أنه لا يجوز أن يحلف بمخلوق فكذلك لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق ولا يسأل بنفس مخلوق، فالسؤال بالمخلوق والإقسام به كلاهما من باب واحد، وقد تقدم بيان أن العلماء منعوا الحلف بغير الله ومنهم من جعله من الشرك الأكبر كما منعوا الإقسام على الله تعالى بالمخلوق.
ومن هذا الباب التوسل البدعي. فهو مثل القسم والحلف بغير الله تعالى فلا فرق بين ذلك.
13- ثم يقال لمن يجيز الإقسام على الله تعالى بالمخلوق أو السؤال به: ما هو الضابط الذي تتبعه في السؤال بالمخلوقات والإقسام بها؟ هل يقسم بكل مخلوق أو بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها؟.
فإن قال بكل مخلوق لزمه أن يسأل بالشياطين؛ فهذا لا يقوله مسلم وإن قال بالمعظمة، فيقال: هل هو خاص بنوع معين أم لا؟ فإن قال بالمخلوقات التي أقسم الله بها لزمه السؤال بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وبكل ذكر وأنثى ولزمه أن يسأله بالشمس والقمر والكواكب مع أنها عبدت من دون الله. وإن قال بمعظم دون معظم فيقال له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل على أحد من المخلوقات كائناً ما كان، ونهى الله عن الشرك به في أي مخلوق، قال تعالى: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)) [آل عمران:79].
والله سبحانه سوى بين المخلوقات فلم يجعل لأحد منها سواء كان نبياً أو غيره أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه، فكذلك السؤال إما أن يسوغ بالكل وإما ألا يسوغ مطلقاً أو بكل معظم والتفريق بين معظم ومعظم كتفريق من فرق، فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض فكما أن هذا فرف باطل فكذلك الآخر[9].
14- ثم إن مسألة التوسل أمر اختلف فيه العلماء ما بين مجيز ومحرم، أفلا يكون منعه من باب اجتناب الشبهات التي أمرنا بالاجتناب عنها في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)[10]، فإذا كان الفقهاء يراعون الخلاف حتى في المسائل التي أدلتها ضعيفة فلماذا لا نراعي هنا الخلاف مع قوة الأدلة التي تدل على المنع وقد ذكرناها؟ فالإنصاف يقتضي أن نراعي هنا أكثر فأكثر لعلاقة المسألة بإخلاص العبادة لله الذي ضده الكفر والعياذ بالله.
15- ثم إن التوسل بالذوات لو قلنا بجوازه فلا يخلو إما أن نقول: إن التوسل المشروع أفضل منه أو هو أفضل ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه هو الأفضل؛ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نترك الأفضل ونبحث عن المفضول؟ فهل هذا إلا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
[1] انظر الإشارة إلى هذا الوجه في التوسل أنواعه: (46-47).
[2] انظر معارج القبول: (1/483).
[3] شأن الدعاء للخطابي (ص:17).
[4] انظر (ص:582)، وانظر معنى الكراهة عند السلف (ص:647).
[5] انظر في هذا، قاعدة في التوسل: (92، 107).
[6] انظر في هذا الاختلاف: الفتاوى: (6/141-143)، والفتاوى الكبرى المصرية: (1/216)، وفتح الباري: (11/220).
[7] انظر قاعدة في التوسل (107)، والرد على البكري: (40)، وشرح الطحاوية: (202).
[8] الرد على البكري: (230 و(86-87)، والفتاوى: (1/137).
[9] قاعدة في التوسل: (108-112).
[10] حديث صحيح رواه عدة من الصحابة منهم الحسن وأنس وابن عمر حديث الحسن أخرجه أحمد: (1/200)، والترمذي: (4/668) (رقم:2518)، والحاكم: (4/99)، وسكت عنه وقال الذهبي: سنده قوي، وانظر الإرواء: (1/44) (رقم:12).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.