الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ نستكمل ثمرات محبة الله تبارك وتعالى فهي ثمرات لا تنتهي ولا تحصى، ومنها:
عندما يستبد حبُّ الله في قلب العبد فإن هذا من شأنه أن يجعله يغار لمولاه، وعلى محارمه أن تُنْتَهك، وحدوده أن تُتجاوز، وأوامره أن تُخالف، فمع شفقته على العصاة، إلَّا أن هذا لا يمنعه من بغضه لتصرفاتهم التي تغضب ربَّه، ولو كانت من أقرب الناس إليه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
لقد علم المحبُّ الصادقُ أن محبوبه الأعظم يحب عباده، ويحب من يحببهم فيه ويعيدهم إليه، وفي نفس الوقت فإنه سبحانه لا يحب تصرفاتهم المخالفة لأوامره، المنافية لصفة العبودية التي ينبغي أن يتصفوا بها: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، فهو لا يحب الكفر، ولا يحب الظلم، ولا الطغيان، ولا الكِبْر، ولا الفسق، لذلك ترى المحب لله يجمع بين الأمرين: الشفقة على الخلق وحب الخير لهم من جانب، وبغضه لتصرفاتهم التي لا تُرضي مولاه، ونهيهم عنها، بل ومحاربتهم عليها إن تطلب الأمرُ من جانب آخر.
ومن لوازم هذه الغيرة: الغيرة على رسوله، وكيف لا وهو أحب الخلق إلى الله، فلو كانت المحبة لله صادقةً لتبعتها ولازمتها محبةُ رسوله والغيرة عليه، ولقد تمثَّل هذا الأمر في الصحابة جيدًا، ولعل ما حدث لخبيب بن عدي ما يؤكد ذلك، فقد تم أسره في يوم الرجيع، وصُلِبَ لكي يُقتل، وقبل قتله قال المشركون له: (أتُحِبُّ أنَّ محمدًا مكانك؟ فقال: لا واللهِ العظيمِ، ما أحبُّ أن يفديني بشوكةٍ يُشاكُها في قدمِه)([1]).
ومع كل الثمار السابقة تأتي أهم ثمرة للمحبة؛ ألا وهي الاستغناء بالله سبحانه وتعالى والاكتفاء به: {وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]، فينعكس ذلك على تعاملات العبد مع الأحداث التي تمرُّ به.
فإن ادلهمت الخطوبُ استشعر معية الله له: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ...
وإن تشابكت أمامه الأمورُ تذكَّر فردَّد في نفسه: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ...
شعاره الدائم {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [النساء: 132] ...
يتغنَّى بمثل قول الشاعر:
فليتَكَ تَحْلُو والحياةُ مريرةٌ |
وليْتَكَ تَرْضَى والأنَامُ غِضَابُ |
ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَك عَامِرٌ |
وبَيْنِي وَبَيْنَ العالمين خَرَابُ |
إذا صَحَّ مِنْكَ الودُّ فَالكُلُّ هَيْنُ |
وَكُلُّ الذي فَوْقَ الترَابِ تُرَابُ |
قال الجنيد: (قد أوجبَ اللهُ لأهلِ محبتِه الصنعَ والتوفيقَ في جميعِ أحوالهم، فأورثَهم الغنى، وسدَّ عنهم طلبَ الحاجات إلى الخلقِ، تأتيهم ألطافٌ من اللهِ من حيثُ لا يحتسبون، وقامَ لهم بما يكتفون، ونزَّه أنفسَهم عما سوى ذلك، إكرامًا لهم عن فضولِ الدنيا، وطهارةً لقلوبِهم من كلِّ دنسٍ، وأمشَاهم في طرقاتِ الدنيا طيبين، وقد رَفَعَ أبصارَ قلوبِهم إليه، فهم ينظرون إليه بتلك القلوبِ غير محجوبةٍ عنه)([2]).
إن من أعظم وأجلِّ الثمرات التي تتحقق للمحب الصادق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كمالُ الإيمان له، وسروره ولذته بذوق حلاوته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ أنْ أنقذَه اللهُ منه كما يكره أن يُقذَفَ في النارِ)).
فقد دلَّ هذا الحديث العظيم على أن من اتَّصَف بهذه الأمور الثلاثة وكنَّ فيه فقد وجد حلاوة الإيمان في قلبه، ومن المعلوم أن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -([3])، فمن أحب شيئًا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك.
وفي الصحيح أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِه ووَالِدِه والناسِ أجميعن))([4])، فمن لم يكنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من الولد والوالد والناس أجمعين فإيمانه ناقصٌ وضعيف، ومحبته غير كاملة، لأن محبتَه من محبةِ اللهِ وتابعة لها، بخلاف من كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهمان، فإن إيمانه كامل ومحبته كاملة صادقة، وهذا ما يُفهم من مفهوم المخالفة لهذا الحديث الشريف.
إن أكبر فوز يحصل عليه العبدُ يوم القيامة وأكبر سعادة يهنأ بها، هو نجاتُه من عذاب الله وغضبه وعقابه، وفوزُه بجنته ورضاه ورحمته؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آلعمران: 185]، وكفى والله بهذا الفوز نصرًا، وبحصول العبد عليه نعمةً وشهادةً وجائزةً.
وهذا الفوز العظيم إنما هو ثمرة من ثمرات محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن لهذه المحبة العظيمة سوى هذه الثمرة لكفت العبدَ المؤمن المحب سعادةً وفَرَحًا، ولكفت العاقل أيضًا حرصًا عليها وعملًا بمقتضاها وموجباتها، وحرصًا على التمسك بها والعضِّ عليها بالنواجذ، وعدم تعويضها بأي بَدَلٍ أو عوض مهما كان.
كيف وإن ثمار هذه المحبة المباركة لا يزال يَنْعَمُ بها المحبون الصادقون ويرتعون فيها ويسعدون في دنياهم وأخراهم بسبب تحقيقهم لها، فهنيئًا لهم من فوزٍ عظيمٍ وسرورٍ دائم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ منْ كُنَّ فيه حُرِّمَ على النارِ وحَرُمَت عليه النار: إيمانٌ باللهِ، وحبُّ اللهِ، وأن يُلقى في النارِ فيُحْرَق أحبُّ إليه من أنْ يرجعَ في الكُفْرِ))([5]).
لا تقتصر ثمرات محبة العبد لربه ولرسوله على ما ذكرنا، بل إن من أعظمها وأحبها إلى قلب المحب الصادق فوزٌ يوم القيامة بمرافقة المحبين الصادقين وخير خلق الله أجمعين: الأنبياء والمرسلين وفي مقدمتهم حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصديقين والشهداء والصالحين من سلف المؤمنين من أتباع الأنبياء، وفي مقدمتهم صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ولقد بشَّرَ اللهُ عز وجل في كتابه العزيز كما بَشَّر رسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم بهذه المعية الطيبة والمرافقة الحبيبة للمحبين الصادقين المطيعين لله ورسوله؛ فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69-70].
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية، أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه يومًا وقد تغيَّر لونُه، والحزن يُعَرَفُ في وجهِه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما غَيَّرَ لونَك؟! فقال: يا رسول اللهِ، ما بي من مرضٍ ولا وجعٍ، غيرَ أني إن لم أرَك استوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرةَ فأخافُ أن لا أراكَ، لأنك تُرْفَعُ مع النبيين، وإني إنْ دخلتُ الجنةَ في منزلةٍ أدنى من منزلتِك، وإن لم أدخلْ الجنةَ لا أراكَ أبدًا))؛ فنزلت هذه الآية، وقال قتادة - رحمه الله -: (قال بعضُ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم له: كيف يكون الحال في الجنةِ وأنتَ في الدرجاتِ العُلى ونحنُ أسفلَ منك، وكَيْفَ نراك؟! فأنزلَ اللهُ هذه الآية)([6]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسول اللهِ، كيف تقول في رجلٍ أحب قومًا ولم يَلْحَق بهم؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: المرءُ مَعْ مَنْ أَحَبَّ))([7]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.