إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فإنه قد ورد اسمه سبحانه (الحليم) في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة من ذلك. قوله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
وقوله - عز وجل -: {وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] وقوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263] وقوله تبارك وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] كما جاء ذكر اسمه سبحانه (الحليم) في دعائه صلى الله عليه وسلم عند الكرب ومنه: (لا إله إلا الله العظيم الحليم...) الحديث[1].
المعنى اللغوي:
"الحلم بالكسر: الأناةُ والعَقْلُ، وجمعه أحْلامٌ وحُلُومٌ، وأحلامُ القومِ: حُلماؤُهُم، ورجل حليمٌ من قومٍ أحلامٍ وحُلَماء.
وحَلُمَ يَحْلُمُ حِلْمًا: صار حَليمًا، وحَلُمَ عنه وتحَلَّمَ سواءٌ، تَحلَّم تكلَّف الحلم.
والحِلْمُ: نقيض السَّفَهِ.
أمّا الحُلْمُ والحُلُمُ فهو الرُّؤْيا والجمع أحْلامٌ يقال: حَلَمَ يحْلُمُ: إذا رأى في المنام"[2].
وقال الراغب رحمه الله تعالى: "الحِلْمُ ضَبطُ النفس والطبع عن هيجان الغضب وجمعه أحلامٌ، قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} [الطور: 32]، قيل معناه: عُقولُهُم وليس الحِلْمُ في الحقيقة هو العقلُ، لكن فسَّروه بذلك لِكونِهِ من مُسَبَّبَاتِ العقل"[3].
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "(حليم) يعني أنّه ذو أناة، لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم"[4].
وقال في موضع آخر: "حليمًا عمّن أشرك وكفر به من خلقه، في تركه تعجيل عذابه له"[5].
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "هو ذو الصَّفحِ والأناةِ، الذي لا يَستفزُّهُ غضبٌ، ولا يَستَخِفُّهُ جهلُ جاهل، ولا عصيانُ عاصٍ. ولا يستحق الصافح مع العجزِ اسم الحِلمِ، إنّما الحليمُ هو الصَّفُوحُ مع القدرة والمتأنّي الذي لا يَعجَلُ بالعقوبة.
وقد أوضح بعض الشعراء بيانَ هذا المعنى في قوله:
لا يدركُ المجدَ أقوامُ وإنْ كَرُمُوا
حتى يَذِلُّوا وإنْ عَزُّوا لأقوامِ
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
لا صفح ذل ولكن صفح أحلام[6]
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان"[7].
ويقول في موطن آخر: "شهود حلم الله - سبحانه وتعالى- في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه (الحليم) الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه (الحليم) ومشاهدة صفة الحلم والتعبد بهذا الاسم"[8].
ويقول أيضًا: "ولما كان اسم (الحليم) أدخل في الأوصاف، واسم (الصبور) في الأفعال، كان الحلم أصل الصبر وموقع الاستغناء بذكره في القرآن عن اسم الصبور"[9].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "والحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة، والباطنة مع معاصيهم، وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا"[10].
وقال في موطن آخر: "الحليم الذي له الحلم الكامل، والذي وسع حلمه أهل الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا... والله تعالى حليم عفو، فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين الوصفين العظيمين معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليهما من العقوبات العاجلة المتنوعة. وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم، ليتوبوا، وعفوه يقتضي مغفرة ما صدر منهم من الذنوب خصوصًا إذا أتوا بأسباب المغفرة من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة، وحلمه وسع السماوات، والأرض، فلولا عفوه ما ترك على ظهرها من دابة، وهو تعالى عفو يحب العفو عن عباده، ويحب منهم أن يسعوا بالأسباب التي ينالون بها عفوه من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه.
ومن كمال عفوه أن المسرفين على أنفسهم إذا تابوا إليه غفر لهم كل جرم صغير، وكبير، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها"[11].
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحليم):
أولاً: محبة الله - عز وجل - والحياء منه، حيث إن حلمه العظيم اقتضى الصبر على عباده العصاة، وعدم الاستعجال في عقوبتهم لعلهم يستعتبون ويتوبون. فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًا ويجعلون له ولدًا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم)[12]. ومن هذا شأنه يحب الحب كله ويستحي منه حق الحياء، وهذا يثمر في القلب الأنس به سبحانه والمبادرة إلى طاعته وترك معاصيه. ولو عاجل الله - عز وجل - العصاة بعذابه ولم يحلم عليهم لما بقي على وجه الأرض أحد.
قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
وقال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ} [الكهف: 58].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "ولو يؤاخذ الله عصاة بني آدم بمعاصيهم: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} يعني: الأرض من دابة تدبّ عليها {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} يقول: ولكن بحلمه يؤخِّر هؤلاء الظلمة، فلا يعاجلهم بالعقوبة: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يقول: إلى وقتهم الذي وقَّتَ لهم: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} يقول: فإذا جاء الوقت الذي وَقَّتَ لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون، ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا آجالهم" أهـ[13].
ثانيًا: فتح باب الرجاء وعدم اليأس من رحمة الله تعالى والمبادرة إلى التوبة والإنابة عن الذنوب مهما عظمت؛ لأنه سبحانه ما أخَّر العقوبة على الذنب إلا للإنابة والتوبة، ولذلك اقترن اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغفور) في أكثر من آية.
ثالثًا: الحذر من غضبه سبحانه لأن (الحليم) إذا غضب لم يقف لغضبه شيء. وحلمه سبحانه صادر عن قوة وقدرة، والله - عز وجل - (الحليم) لا يغضب إلا على من لا يستحق الرحمة ولا يصلح في حقه الحلم، وذلك بعد أن يعطي المهلة والوقت الكافي، ليتوب ويهتدي فلم يستجب.
وقد ذكر الله - عز وجل - في كتابه الكريم ما فعله بأعدائه الكفرة عندما تمادوا في طغيانهم بعد أن حلم الله- عز وجل - عنهم وأمهلهم. قال الله - عز وجل - : {فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]، وقال: {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11]، وقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 37 - 40].
وقد يحلم الله - عز وجل - عن الكفار ويستأنى بهم ويرزقهم ولا يأخذهم بعقوبة في الدنيا، لكنه سبحانه لا يتأنى بهم في الآخرة ولا يصفح عنهم، بل تسوقهم ملائكة الرحمن إلى النار، فتحيط بهم، فلا يقبل رجاؤهم، ولا يخفف عذابهم: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 68 - 72]، {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54].
رابعًا: ومن آثار حلمه سبحانه أنه لا يستجيب لاستعجال عباده بإنزال العقوبة بالكافرين، سواء كان ذلك من قبل المؤمنين في استعجالهم الفتح بينهم وبين القوم الكافرين أو كان ذلك من الكافرين الذين يستعجلون العذاب والله - عز وجل - يحلم عنهم ويؤخره عنهم.
قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58]. وقال له أيضًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وقال عن الكافرين: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16]، وقال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِن يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. ومع ذلك فالله - عز وجل - يحلم عنهم ويتأنى بهم فتبارك الله العظيم الحليم الذي له الحمد في السماوات والأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير.
خامسًا: مجاهدة النفس بالتخلق بهذا الخلق الكريم ألا وهو صفة (الحلم)، فهو سبحانه (حليم) يحب من عباده الحلماء، كريم يحب الكرماء. وقد أثنى الله - عز وجل - على خليله ونبيه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]. وجعل من صفات نبيه إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - الحلم، وذلك بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 10]، وكان لرسولنا صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر من هذا الخلق العظيم وسيرته العطرة تشهد بذلك. كما جاء في الأثر مدح صفة الحلم وأنه من الأخلاق التي يحبها الله - عز وجل - حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)[14].
والحلم الممدوح المحبوب لله - عز وجل - هو الحلم الناشئ عن القدرة، أما حلم العاجزين فليس بممدوح، وكذلك ينبغي أن لا يتكلف في الحلم حتى يصير ذلة ومهانة واستخفافًا من قبل السفهاء، ولا يفرَّط فيه حتى يصير طيشًا وجهلاً، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والفرق بين العفو والذل أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل، فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس، فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]"[15].
اقتران اسمه سبحانه (الحليم) ببعض الأسماء الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (العليم):
ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى في آخر آيات المواريث: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]. وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51]. وعن وجه هذا الاقتران يرجع إلى الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فقد ذكر هنالك.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغفور):
ورد ذلك ست مرات في القرآن الكريم ومن ذلك في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]. وعن وجه هذا الاقتران، يقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: "ومناسبة اقتران وصف (الغفور) (بالحليم) هنا، دون (الرحيم) لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ولا يغضب للفعلة ويقبل المعذرة"[16]. ثم إن من مقتضى حلمه سبحانه أن يغفر ذنوب عباده ويتوب عليهم، ولا يؤاخذهم عليها.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغني):
ورد ذلك مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله سبحانه: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]. يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "وختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}، وفيه معنيان: أحدهما: أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يمنُّ بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم إذ لا يعاجل المانّ بالعقوبة. وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير.
والمعنى الثاني: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره"[17].
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: " {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ، غني عن الصدقة المؤذية، حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكروه فلا يعجلهم بالعقاب، ولا يبادرهم بالإيذاء وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء. فليتعلم عباده من حلمه سبحانه فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءًا مما أعطاهم الله لهم حين لا يروقهم منه أمر أو لا ينالهم منهم شكر"[18]، وفي اقتران هذين الاسمين الكريمين دلالة أيضًا على أن حلمه سبحانه لم يكن عن عجز أو فقر أو حاجة وإنما عن غنى تام، وقدرة تامة والله أعلم.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الشكور):
وذلك في قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، وذلك مرة واحدة في القرآن الكريم. يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: " وتبارك الله ما أكرمه وما أعظمه، وهو ينشئ العبد ثم يرزقه ثم يسأله فضل ما أعطاه، قرضًا يضاعفه ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه .. يالله!! "[19].
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (العظيم):
وذلك في دعائه صلى الله عليه وسلم عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم...) الحديث[20]. ووجه الاقتران هنا بين فهو سبحانه على عظمته وكبريائه وقوته فإنه حليم بعباده وحلمه عن قوة وعظمة، وليس عن عجز وحاجة، و(العظيم) صفة كمال، (والحليم) صفة كمال أيضًا له سبحانه، واجتماع (العظيم) و(الحليم) فيهما كمال آخر فعظمته سبحانه يزينها الحلم، وحلمه عن قوة وعظمة، لأن الغالب في عظماء البشر وملوكهم ضعف الحلم عندهم لأنهم يغترون بعظمتهم، ويبشطون بمن خالفهم ولا يحلمون عنه.
الهوامش:
[1] البخاري (6345)، ومسلم (2730).
[2] انظر الصحاح 5/1903، واللسان 2/979 - 980.
[3] المفردات ص 129.
[4] تفسير الطبري 2/327.
[5] نفس المصدر السابق 22/95.
[6] شأن الدعاء ص 63 - 64.
[7] النونية 2/227.
[8] مدارج السالكين 1/206.
[9] عدة الصابرين ص 425.
[10] تفسير السعدي 5/630.
[11] الحق الواضح المبين ص 55، 56.
[12] رواه مسلم (2804).
[13] تفسير الطبري 14/85.
[14] مسلم في الإيمان (18).
[15] الروح ص 513.
[16] التحرير والتنوير 2/184.
[17] بدائع التفسير 1/421.
[18] في ظلال القرآن 1/308.
[19] نفس المصدر 6/3591.
[20] مسلم (2713).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.