الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ المعرفة هي طريق المحبة الصادقة لله عز وجل؛ ومع ذلك فإن المعرفة تحتاج دومًا إلى تذكير يتجاوب معه الفكر والعاطفة، هذا التذكير الدائم من شأنه أن يبذر بذور المحبة في القلب، ويشكِّل قاعدته في المشاعر والوجدان.
ومع أهمية التذكير الدائم تأتي الأعمال الصالحة ذات الصلة بموضوع المحبة؛ لتكون بمثابة الماء الذي يسقي بذور المعرفة بالله الودود، فتنمو شجرتها ويرتفع بنيانها، لتكون النتيجة هي استحواذ حب الله على أكبر قدر من مشاعر الحب داخل القلب، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
- التفكر في الكون وأحداث الحياة:
الإيمان بالحقائق والمعارف التي تم ذكرها يحتاج إلى تذكرة دائمة تستثير المشاعر، وتُنشئ الإيمان وترسخه في القلب، والقرآن - كما أسلفنا - هو المدخل الأساس لذلك بما فيه من آيات ودلائل تدل على الله عز وجل وتعرِّفنا بمظاهر حبه لعباده ومدى رأفته وشفقته وبره بهم.
ومع الآيات المقروءة في القرآن تأتي الآيات المرئية والمنظورة في الكون وأحداث الحياة، فكل ما في الكون يدل على الله ويُذكِّر به: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
ولقد حثنا - سبحانه - على أن نتفكر في آياته المبثوثة في كونه، وفيما يمرُّ بنا من أحداث في حياتنا؛ لتكون وسيلة للتذكرة الدائمة به، ومن ثمَّ الوصول إلى معرفته، وحبه، والتعلق التام به.
تأمل قولَه تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 6-8].
ومما يلفت الانتباه أن الله عز وجل يُصَرِّفُ الآيات الكونية ويكررها بأشكال مختلفة، كما يكرر الآيات بأساليب مختلفة في القرآن؛ ليتم من خلالها التذكرة والتبصرة، ومن ثم يزداد الإيمان رسوخًا في القلب: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، ومثال ذلك: الحر الشديد أو البرد الشديد، أو العواصف، أو... كل ذلك آيات تُذَكِّر بالله عز وجل.
وكما أن الله عز وجل قد ذمَّ من يُعْرِضُ عن تدبر القرآن وفهم المراد من آياته، فإنه كذلك قد ذمَّ من يُعْرِضُ عن التدبر والتفكر في آياته المبثوثة في كونه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]، {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
لابد إذًا من التفكر في آيات الله المبثوثة في كونه المنظور، والذي يشمل المخلوقات التي تراها أعينُنا كالسماء والجبال والأشجار، ويشمل كذلك أحداث الحياة المختلفة التي تمرُّ بكل إنسان: {أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَّكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185]، فيستدل المرء من خلالها على الله عز وجل فيزداد به معرفةً.
فإذا ما تجاوب القلبُ مع هذه المعرفة؛ ازدادت مساحة الإيمان فيه، وانجلت بصيرته، وشيئًا فشيئًا يتنور القلب فيرى بهذا النور صفاتَ ربه تتجلى من وراء كلِّ شيء تراه عيناه، فيوحده التوحيد الحقيقي، ويربط حياته كلها به؛ لذلك كان التفكر من أفضل العبادات سواء كان هذا التفكر في آيات القرآن أو آيات الكون، وصدق من قال:
إذا المرءُ كانت له فكرةٌ |
ففي كلِّ شيءٍ له عبرةٌ |
يقول ابن رجب: (كان السلفُ يُفَضِّلُون التفكرَ عن نوافل العبادةِ، وكان أكثرَ عملِ أبي الدرداء الاعتبارُ والتفكرُ)([1]).
ولأننا نتحدث عن محبة الله، وكيفية غرس شجرتها في قلوبنا؛ لذلك فنحن نريد أن نتجه بعقولنا ومشاعرنا نحو التفكر في مظاهر حب الله لعباده التي تحدثنا سلفًا عن جوانب منها.
ومحيط التفكر في هذه المجالات يشمل أحداث الحياة التي تمرُّ بنا، والمشاهدات التي نشاهدها، والأخبار التي تصل إلى مسامعنا، فنربط ما يمكن ربطه منها بالله الودود.
فعلى سبيل المثال:
سبق فضلُه وحبُّه سبحانه لعباده قبل أن يولدوا، فهذا الجانب العظيم من جوانب المحبة الإلهية لنا، يمكننا إدراكه من خلال ما نسمع وما نشاهد وما نقرأ عن الكفار والملحدين والوثنيين والمشركين وكل من ابتعد عن الإسلام، فنتذكر من خلال هذه المشاهد والقراءات مدى سَبْقِ فضل الله علينا أن لم يجعلنا منهم.
ومما يلحق بهذا الجانب أيضًا: رؤية المخلوقات الأخرى التي نشاهدها طيلة ساعات يومنا من جمادات أو حيوانات أو نباتات؛ فنستشعر نعمة التكريم الإلهي لنا، والتي سبقت وجودنا في هذه الأرض.
أما بالنسبة لجانب العافية وما فيه من عظيمِ فضل الله علينا؛ فيمكن استشعاره من خلال رؤية أهل البلاء والنقص في العافية، فما من مرضٍ يصيب إنسانًا وعُوفِيْتَ أنت منه إلا ويُذكِّرُك بمدى فضل الله عليك.
ونفس الأمر بالنسبة لجانب العصمة: فما من معصية تحدث أمامك أو تصل إلى مسامعك ولم تفعلْ مثلها إلا دليلٌ على حب الله، بأن عصمك من ارتكابها وصرف رغبتك عنها، وكرَّهك فيها، سواء صغرت تلك المعصية أو كبرت، وكل طاعة نؤديها علينا أن نرى من خلالها حبَّ الله لنا، أن وفقنا وأعاننا على القيام بها.
أما جانب القيومية: فما أسهل رؤيته من خلال ما قد يحدث لنا من منعٍ وقتي لإمدادات ربانية اعتدنا أن تتوالى علينا ليل نهار؛ مثل: اختلال توازن الجسم، خفقان القلب، ألم مفاجئ في الرأس ..، كل ذلك وغيره علينا أن نرى من خلاله قيومية الله لنا في حفظه لأجسادنا ليل نهار.
وبالنسبة لجانب التسخير: علينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى كل الأشياء التي نتعامل معها، ونتفكر في مظاهر تسخيرها لنا، وكيف ستكون الحياة بدون ذلك التسخير.
وهكذا فى بقية الجوانب العشرة؛ يمكننا أن نتعرف عليها ونربطها بالله الودود من خلال إعمال عقولنا في شريط أحداث الحياة الذي يمرُّ أمام أعيننا دون توقف.
والذي يساعد الواحدَ منا على حُسن التفكر فيما يسمع ويشاهد: المداومة على قراءة القرآن والتفكر في آياته التي تتحدث باستفاضة عن الله الودود، فإذا ما أغلق مصحفه وانطلق إلى الحياة شاهد بعينه ما قد تعرَّف عليه في القرآن: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وبهذا يحدث الانسجام بين ما يقرؤه وما يشاهده، مما يكون له أكبر الأثر على علاقته بربه فتزداد معرفته به، ومن ثمَّ حبُّه وأنسه وشوقه إليه([2]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.