الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛..
1- طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه:
الطاعة والاتباع دليل المحبة وشاهدٌ عليها، وهو شرط صحة المحبة، وبدونهما تصير المحبة دعوى، يقول القاضي عياض - رحمه الله -: (اعلم أن من أحبَ شيئًا آثرَه وآثرَ موافقته، وإلا لم يكنْ صادقًا في حبِّه وكان مدعيًا، فالصادقُ في حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامةُ ذلك عليه)([1]).
2- تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره والأدب معه:
وهذا من مقتضيات مقام النبوة والرسالة، ومن كمال الأدب وتمام التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه، ومن آكد حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته، كما أنه من الواجبات الدينية العظيمة، وعلى قدر معرفة العبد للنبي صلى الله عليه وسلم يكون تعظيمه؛ ولذا كان الصحب الكرام أعظم الأمة تعظيمًا وتوقيرًا وتأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
3-الإقتداء به والعمل بسنته والتخلق بأخلاقه:
يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؛ قال الحافظ المفسر ابن كثير - رحمه الله -: (هذه الآيةُ الكريمةُ أصلٌ كبيرٌ في التأسي برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه؛ ولهذا أمرَ الناسَ بالتأسي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب، في صبرِه ومصابرتِه ومرابطتِه ومجاهدتِه وانتظارِه الفرجَ من ربِّه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين)([2]).
فمن ألزمَ نفسَه بالآداب النبوية نوَّرَ اللهُ قلبه بنورِ المعرفة، ومن أشرفِ مقامات العبدِ متابعةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أوامرِه ونواهيه وأفعالِه، والتخلق بأخلاقِه في الجود والإيثار والحلم والصبر والتواضع وغيرها من الخصال الرفيعة، فمن جاهد نفسه على ذلك وجدَ حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذَّ الطاعةَ([3]).
4-كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم:
يقول العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله - وهو يعدد فوائد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها سببٌ لدوام محبته للرسولِ صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقدٌ من عقودِ الإيمانِ، الذي لا يتم إلا به، لأن العبدَ كلما أكثرَ من ذكر المحبوبِ واستحضارِه في قلبِه واستحضارِ محاسنِه ومعانيه الجالبةِ لحبِّه؛ تضاعفَ حبُّه وتزايدَ شوقُه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرضَ عن ذكرِه وإحضار محاسنه بقلبِه نقصَ حبُّه من قلبِه، ولا شيءَ أقر لعينِ المحبِّ من رؤيةِ محبوبِه، ولا أقر لقلبِه من ذكرِه وإحضار محاسنِه، فإذا قوي هذا في قلبِه جرى لسانُه بمدحِه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادةِ الحبِّ ونقصانِه في قلبِه)([4]).
5-نصرة دينه والذب عن شريعته بالقول والفعل:
إن الذبَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ونصرته علامةٌ على محبتِه واتباعِه، ومحبة دينه وشرعته؛ يقول الله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، والذب عن سنته يكون بحفظها وتنقيحها، ونشرها في العالمين، وحمايتها من انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين.
6-الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم:
يقول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسُ محمدٍ في يدِه؛ ليأتينَّ على أحدِكم يومٌ ولا يرانِي، ثم لأن يرانِي أحبُّ إليه من أهلِه ومالِه معهم))([5]).
7-محبة آل بيته وصحابته:
وهذا من مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم لوصية رسول الله بهم، وقد قال في إحدى خُطبه: ((أما بَعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشرٌ يوشكُ أن يأتيَ رسولُ ربِّي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما كتابُ اللهِ، فيه الهدى والنورُ فخذوا بكتابِ الله، واستمسكوا به))، فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي أُذَكِّركُم اللهَ في أهلِ بيتِي، أُذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتِي، أُذَكِّركُمُ اللهَ في أهلِ بيتِي))([6]).
ويقول الله تبارك وتعالى عن محبة الصحابة رضي الله عنهم: {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًا لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
8- بغض من أبغضه اللهُ ورسوله:
يقول الله تبارك وتعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وقد نقل الحافظُ ابن حجر عن علماء الملة علامات ومقاييس لمعرفة محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلب الشخص وعدمها؛ ومن أشهر تلك العلامات ما يلي:
أولًا: فَقْدُ رؤيته يكون أشد عليه من فَقْدِ أي شيء آخر في الدنيا([7]).
ثانيًا: يتمنى حضور حياته صلى الله عليه وسلم كي يبذل نفسه وماله دونه.
ثالثًا: يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه.
رابعًا: ينصر سنته ويذبُّ عن شريعته([8]).
فإذا توافرت تلك العلامات في شخص فليحمد الله تعالى على وجود حبٍّ صادقٍ للنبي صلى الله عليه وسلم في قلبه، وإذا فقد تلك العلامات أو بعضًا منها فليحاسب نفسَه قبل أن يُحَاسَب في يومٍ يجعل الولدان شيبًا، ولا يحاول خداع الله تعالى والمؤمنين، فإن المخادع لله هو المخادع لنفسه: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
إن من المعروف أن غاية ما يتمنى المحبُّ هو أن يسعد برؤية حبيبه، فمحب النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى دائمًا أن يسعد برؤيته صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وحينما تُعْطَى له فرصة اختيار أحب وأغلى شيء يختار رؤيته صلى الله عليه وسلم.
ثم إن المحب الصادق يُحْزِنُه حتى تصورُ حرمانِه من رؤيته صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر ابنُ جرير عن سعيد بن جبير قال: ((جاءَ رجلٌ منَ الأنصارِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان مالي أراكَ محزونًا؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ شيءٌ فكرتُ فيه، فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو ونروحُ ننظر إلى وجهِك ونجالِسُك، وغدًا تُرْفَعُ مع النبيين فلا نصلُ إليك، فلم يَرُدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فأتاه جبريلُ بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فبعث إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبشَّرَه))([9]).
هكذا كان الصادقون في محبتهم له صلى الله عليه وسلم؛ وكيف نحن؟! ألسنا قد أحببنا أشياءَ أخرى واستبدلناها بهذه المحبة؟! نبذل الشيء الكثير من المال والوقت لمشاهدتها أو التلذذ بها، ونضيع العديدَ من حقوق الله تعالى وحقوق الناس في سبيل متابعتها، نفرح برؤيتها، ونحزن ونتأسف إذا فاتنا منها الشيء اليسير.
ويترقب المحب الصادق بكل اشتياق الفرصة التي يبذل فيها نفسَه وكل ما يملك دون حبيبه، والمحبون الصادقون للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا دائمًا على أتمِّ الاستعداد لفدائه بالأنفس وكل عزيز عليهم دونه صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا بعد عصره صلى الله عليه وسلم كانوا يجدون حسرة في قلوبهم على فوات هذه الفرصة.
إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ليجد منهم محبة له منقطعة النظير، وفداء له بالنفس والمال، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم معناها امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالذي يخالف أوامر الإسلام في شيء ما، أو يفعل بعض ما نهاه عنه الإسلام، ثم يدَّعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه غير صادق في دعواه، إذ أن المحب لابد أن يطيع حبيبه، ولابد أن تتقدم هذه المحبة على محبة النفس، بمعنى أن يقدِّم مرادَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مراد نفسه، وأن يطوِّع هواه وفقًا لما جاء به الإسلام، فإن خالف بأقواله وأفعاله أوامرَ الإسلام ونواهيه فهو غير صادق في محبته، وإيمانه غيرُ كامل.
وهكذا فإذا فهم المرء أن في وُسعه أن يقدِّم محبة نفسه وطاعة هواه على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثال أوامره، فإن إيمانه غيرُ كامل، ولا يتم له ذلك إلا بتقديم طاعة الله ورسوله على كل شيء في هذا الوجود؛ فيجب علينا أن نراجع أنفسنا ونحاول أن نسير على درب أسلافنا الصالحين حتى نكون صادقين في محبتنا له صلى الله عليه وسلم.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.