إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة للمؤمنين؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وما ذاك لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة الله المهداة لخلقه؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
لذا؛ لم يدعْ صلى الله عليه وسلم خيرًا إلا ودلَّنا عليه ورغَّبنا فيه، ولم يدعْ شرًّا إلا وحذَّرنا منه ونهانا عنه، ولقد كان صلى الله عليه وسلم القدوة العملية لنا في التطبيق الحي لأوامر الله تعالى والعمل بها، ومحبة كلِّ ما يحبه ويقرب إليه من أعمال وخصال وأعيان، وكان أيضًا صلى الله عليه وسلم القدوة العملية في البُعدِ عمَّا حرم اللهُ تعالى ونهى عنه، وفي بغضه وبغض كل ما يبغضه الله عز وجل من أعمال وصفات وأعيان.
فما من شيء أحبه اللهُ منا ولنا إلا وأحبه، وما من شيء أبغضه اللهُ إلا وأبغضه وكرهه صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المبلِّغُ عن ربِّه وهو القدوة للخلق، فاتباعه والسير على نهجه هو السبيل الوحيد الموصل للسعادة الأبدية، والفوز برضا الله ومحبته، والفوز بجنته والنجاة من عذابه.
هذا وقد ورد في السنة النبوية المطهرة ذكرُ بعض ما كان يحبه صلى الله عليه وسلم من أعمالٍ وخصالٍ وأعيانٍ، وهي وإن كان عددُها قليلًا، إلا أن ذلك لا يعني أنه لم يكنْ صلى الله عليه وسلم يحب غيرها، لأنه إنما ذُكِرَت هذه المحبوبات على سبيل المثال لا الحصر، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم كان يحب - كما أسلفتُ - كلَّ ما يحبه الله من الأعمال والأعيان.
فهو مثلًا كان يحبُّ أصحابه جميعهم رضي الله عنهم، وإن كان لم يردْ إلا ذكر بعضِهم ممن يحبه، كما كان يحب الجهاد والزكاة والصيام والعفو ... إلخ، وغيرها من الواجبات والمستحبات والمباحات، وإن كان لم يردْ إلا ذكرُ بعضِها فقط، ومع هذا فإنني أحب أن أذكر ما ورد في هذا المجال، لنحب ما يحب صلى الله عليه وسلم، ونعمل به ونتقرب إلى الله بذلك.
- الصلاة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّبَ إليَّ مِنَ الدنيا النساءُ والطيبُ، وجُعِلَت قُرَّة عَينِي في الصلاةِ))([1]).
الصلاة هي قرة عيون الموحدين المحبين لله تعالى ولرسوله في هذه الدنيا؛ لِمَا فيها من مناجاةٍ لله تعالى، الذي لا تقرُّ العيون إلا به، ولا تطمئن ولا تسكن النفوس إلا إليه، ولِمَا فيها من التنعم بذكره سبحانه، والابتهاج بمناجاته والوقوف بين يديه، والتلذذ بالخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حالة السجود، والتي يكون فيها العبد أقرب ما يكون من ربه تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ؛ فأَكْثِرُوا من الدعاء))[2].
فلا شيء أقرَّ لعين المحب ولا ألذَّ لقلبه ولا أنعمَ لعيشه من الصلاة، لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما كان يقول إمامُهم وسيدُهم ونبيُّهم وحبيبُهم صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمرٌ: ((يا بلال أَرِحْنَا بالصلاةِ))[3]، ولم يقلْ أرِحْنَا منها.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصلاةِ))، وقرة العين فوق المحبة، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن قرة عينه، التي يطمئن القلب بالوصول إليها، ومحض لذته وسروره وبهجته، إنما هو في الصلاة، التي هي صلةٌ بين العبد وربه، وحضورٌ بين يديه واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين؟! وكيف تقر عين المُحِبِّ بسواها؟!
-الصوم في شعبان:عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: (كان أحبُّ الشهورِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يصومَ شعبان، بل كان يَصِلُه برمضان)[4]، وفي روايةٍ لأحمد رضي الله عنه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصومُ فلا يُفْطِر، حتى نقول: ما في نفسِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُفْطِرَ العام، ثم يُفْطِرُ فلا يصوم، حتى نقولَ: ما في نفسِه أن يصومَ العام، وكان أحبُّ الصومِ إليه في شعبان)[5].
لقد كان صلى الله عليه وسلم كثيرَ الصيام لله عز وجل، وكان أكثر ما يصوم في شعبان، وذلك استعدادًا وتهيئةً لرمضان، فكان يصوم أكثره ليعَلِّمَ المسلمين هذه القربة العظيمة، ألا وهي الصوم، ويهيأهم لاستقبال شهر الرحمة والخير رمضان المبارك، فعلينا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك طريق الفلاح.
-العمل الصالح الدائم:عن عائشة أُم المؤمنين - رضي الله عنها - أن رجلًا قال لها: (حَدِّثِينِي بأحبِّ العملِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالت: كانَ أحبُّ العملِ إليه الذي يدومُ عليه الرجلُ وإن كان يسيرًا)[6]، وعنها - رضي الله عنها - أنها سُئِلَت: (أي الأعمالِ أحبُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائمُ، قِيل: فأي الليلِ كان يقوم؟ قالت: إذا سَمِعَ الصارخُ[7])[8].
فلنحرص على المداومة على العمل الصالح وإن كان يسيرًا، فإنه مما يحبه اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ولأن العمل القليل المستمر خيرٌ من العمل الكثير المنقطع، لأن المستمر على العمل - ولو كان يسيرًا - ما زال في خيرٍ، أما المنقطع عن العمل فهو في بعد عن الخير، فلنحذر التقصير والتسويف؛ فإنه من خزعبلات ووساوس الشيطان الرجيم.
-ذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ أقولَ: سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إِلَه إلا الله واللهُ أكبرُ أحبُّ إليَّ مما طَلَعَتْ عَليه الشمسُ))[9].
- الصلاة التي يداوم عليها:عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان أحبُّ الصلاةِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما داوم عليها)، وفي رواية: (ما دُوِّوم عليها)[10]، وإن قلَّ، وكان إذا صلَّى يداوم عليها.
إن المداومة على الصلاة وعلى أي عمل يحبه الله تعالى مما يُبعِدُ الشيطان عن المسلم، ويجعله دائم الصلة بالله عز وجل، وهذا يؤذي الشيطان ويغيظه، فعلى المؤمن أن يطرد الشيطان وأن يبعده عنه بالإكثار من عبادة الله، من ذكرٍ وصلاةٍ وصومٍ وغير ذلك، ليقوى إيمانه وتزاد محبته لله تعالى، لأنه متى ازداد الإيمانُ وقويت المحبةُ ضعف العدو، والعكس بالعكس.
- النساء والطيب:عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّبَ إليَّ من الدنيا النساءُ والطيبُ، وجُعِلَتْ قُرة عَيني في الصلاةِ))[11]، وإنما حُبِّبَ إليه صلى الله عليه وسلم النساء ليَنْقِلْنَ عنه ما لا يَطِّلع عليه الرجال من أحواله، ويُستحيا من ذكره.
وقيل "حُبِّبَ إليه ذلك" زيادةً في الابتلاء في حقِّه، حتى لا يلهو بما حُبِّبَ إليه من النساء عما كُلِّفَ به من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقِّه وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك[12].
وأما حبُّه صلى الله عليه وسلم للطيب فلأنه يناجي الملائكةَ وهم يحبون الطيب، وأيضًا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج وكمال الخِلْقَة، وهو صلى الله عليه وسلم أشد اعتدالًا من حيث المزاج وأكمل خلقةً من البشر[13].
وإضافةً إلى ذلك، فقد أحبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الطيبَ ورغَّب فيه لأنه القدوة للخلق، فحبه له ووصفه إياه فيه حثٌّ للمسلمين على الاقتداء به، لتكون رائحتهم عطرة، تفوح منها رائحة الطيب، كما يفوح من قلوبِهم وأعضائهم روائح الأعمال الطيبة الصالحة، فهم نظيفون باطنًا وظاهرًا، وهكذا يجب أن يكون المؤمن المحب.
- ثياب الحبرة:فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أحب الثيابِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يلبسَها الحبرة[14])[15]، وفي رواية: أن أنس بن مالك رضي الله عنه سُئِلَ أي الثيابِ كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (الحبرة)[16].
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحبُّ اللباس الجميل، لأن الله جميل ويحب الجمال، واللباس الجميل مما يحبه الله ورسوله، وهو صلى الله عليه وسلم إنما يُعَلِّمُ أمته بل والبشرية جمعاء النظافة والجمال بفعله وحبه لذلك، لأن المسلم بين الناس كالشامة والوردة، فلنحرص على لبس الجميل بدون خيلاء ولا تَكَبُّرٍ ولا إسراف، ولنحسن لبس ثيابنا فإنه من الجمال الذي يحبه الله ورسوله.
- الخيل:عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكنْ شيءٌ أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد النساءِ مِنَ الخيل)[17]، وإنما كان حبُّه صلى الله عليه وسلم للخيل كبيرًا لأنه من أدوات الجهادِ وسلاحِه، والذي هو مما يعينُ على طاعتِه للهِ في أداءِ هذه الفريضةِ العظيمة - الجهاد -، والتي هي من أحب الأعمال إلى الله ومن أكثر ما يقرِّبُ العبدَ إليه عز وجل، وهو القائل صلى الله عليه وسلم مادحًا الخيل: ((الخيلُ معقودٌ بنواصيها الخير إلى يومِ القيامةِ الأجر والغنيمة))[18]؛ فلذا كان يحبها لما فيها من خير.
- الشراب البارد الحلو:فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو([19].
- الحلواء والعسل:وكان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل[20].
- لبس القميص:كما كان أحب الثياب إليه القميص[21].
إن محبته صلى الله عليه وسلم لهذه الأشياء يعتبر مما يعين على محبته الله عز وجل، ولا تُزَاحِم هذه المحبات محبةَ اللهِ تعالى، بل قد تجمعُ الهممَ والقلبَ على التفرغ لمحبة الله، وإن كانت طبيعةً تتبع فيه صاحبها وقصده بفعل ما يحبه، إلا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يحب ذلك لأنها كانت تعينه على طاعة الله ومحبته، وكانت تقويه عليها؛ فلذلك نالَ أجرَ من أحسن النية لله تعالى[22].
([3]) رواه أحمد في مسنده، (5/364-371)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، (4985-4986)، بسند حسن.
([7]) الصارخ: هو الديك كما قال الإمام النووي باتفاق العلماء، وسُمي بذلك لكثرة صياحه؛ انظر: سنن النسائي، (3/208-209).
([14]) "الحِبَرة": بكسر الحاء وفتح الباء، ثيابٌ من كتان أو قطن محبرة، وهي من برود اليمن، وهي أشرف الثياب عندهم، و"التحبير": التزين والتحسين، فتح الباري، ابن حجر، (10/277)، وشرح صحيح مسلم، النووي، (14/56).
([15]) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب البرود والحبر والشملة، (5812)، ومسلم، كتاب اللباس، باب فضل لباس ثياب الحبرة، (33).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.