الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛لا شك أن صحبة الصالحين والعلماء الصادقين لها أثر كبير في تزكية النفوس والسمو بها، فمن جالس جانس، ومن أحب قوما فهو منهم.
ولكن الصوفية بالغو في ذلك لدرجة أنهم جعلوا التزكية لا تتسم إلا عن طريق التزام شيخ وبيعة، وأن ذلك الشيخ هو وحده الذي يعالج أمراض النفس، ولا يمكن للسالك أن يصل إلى ربه إلا عن طريق هذا المرشد الذي هو واسطة بين العبد وربه، كما لا يمكن له أن يقوم بعلاج نفسه، لأنه لابد لكل مريض من طبيب، وعلى المريض أن لا يخفي عن طبيبه شيئا من علله، وأن يستجيب لما يأمره به من العلاج ويستسلم له ولا يخالف أمره في شيء، حتى أصبح التدين عندهم مرتبطا بالشيخ وكراماته واستمداد المدد منه والتزام طريقته والتسليم له في جميع الأمور وخدمته والتذلل بين يديه ونحو ذلك.
ويتضمن هذا الغلو جوانب كثيرة من أبرزها:
1-ادعاؤهم بأنه لا يجوز للمريد أن يتخذ أكثر من شيخ.
2- ادعاؤهم أن الشيخ هو الواسطة بين العبد وربه.
3-الطاعة المطلقة للشيخ والغلو في محبته وأوصافه.
ولنبدأ بالحديث عن الجانب الأول:
1-ادعاؤهم بأنه لا يجوز للمريد أن يتخذ أكثر من شيخ.
وفي ذلك يقول الشعراني:" من شأن المريد أن لا يكون له إلا شيخ واحد، فلا يجعل له قط شيخين لأن مبنى القوم على التوحيد الخالص"[1]، وكأنه يحصر التوحيد في الربوبية، يعني الرب والواحد.
وينقل عن ابن عربي قوله:" أعلم أنه لا يجوز لمريد أن يتخذ له إلا شيخا واحدا لأن ذلك أعون له في الطريق، وما رأينا مريدا قط قد أفلح على يد شيخين، فكما أنه لم يكن وجود العالم بين إلهين ولا المكلف بين رسولين ولا امرأة بين زوجين، فكذلك المريد لا يكون بين شيخين"[2].
ويحاول أن يبرر ما كان عليه سلف الأمة من عدم اقتصار أحدهم على شيخ واحد، فيقول:" لا يخفى أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين إنما لم يكونوا يتقيدون بشيخ واحد، بل كان أحدهم يأخذ عن مائة شيخ، لأنهم رضي الله عنهم كانوا مطهرين من الأدناس والرعونات، فكان كل واحد منهم كاملا لا يحتاج إلى من يسلكه، فلما كثرت الأمراض واحتاجوا إلى علاجها أمرهم الشيوخ بالتقيد على شيخ واحد، لئلا يتبدد حال المريد وتطول عليه الطريق"[3].
ولا شك أن هذا الادعاء غير صحيح، لأنه لا يمكن القطع بأن كل واحد من السلف كان كاملا لا يحتاج إلى من يسلكه، فهذا الحكم لا ينطبق على جيل الصحابة فضلا عن جيل التابعين وتابعي التابعين، فقد كانوا متفاوتين في التقوى والصلاح، ووجد فيهم الطائع والعاصي وظهرت عند بعضهم شيء من أمراض النفس وآفاتها لأنهم بشر غير معصومين، ولك أحوالهم صلحت بالتزامهم بمجالس العلماء والإكثار من الأخذ عن شيوخهم في العلم والأدب على السواء، فالعلماء ورثة الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم كان علما لأصحابه ومزكيا لهم.
ثم انظر كيف وصل بهم الغلو إلى الادعاء بأن وجود المريد بين شيخين لابد أن يؤدي إلى الفساد والتناقض، كما لو وجد العالم بين إليهن، وإنه لم يفلح مريد قط بين يدي شيخين، وكيف يصح ذلك مع اعترافهم أن السلف الصالح كان الواحد منهم يأخذ عن مائة شيخ!!
والتأمل لسير الصالحين وأخبارهم يجد أنهم كانوا يكثرون من صحبة العلماء والأخذ عنهم دون أن يقتصر أحدهم على شيخ واحد، بل كانوا يحرصون على الانتقال من بلد لآخر للتلقي عن العلماء والمربين والاقتباس منهم، ولذلك كثرت رحلاتهم وحفلت كتب التراجم بأخبارهم.
وقد حصل بين الطرق الصوفية بسبب هذه الدعوى خصومات كثيرة، لما كانوا يقومون به من تجاذب المريدين والأتباع، وكل شيخ يحذر أتباعه من الذهاب إلى غيره حتى نفر بعضهم من التدين والعياذ بالله تعالى.
2-ادعاؤهم بأن الشيخ هو الواسطة بين العبد وربه.
ولهم في هذا المجال أقوال كثيرة تبين أن التزكية عندهم لا تصح إلا عن طريق الشيخ المرشد واستمداد الروحانية منه وبيعته، وأخذ الورد عنه، ودوام ربط القلب معه، وأن من توجه إلى الله بلا واسطة فإنه يتمزق!!
وفي ذلك يقول الشعراني في حديثه عن شروط المريد:" ومن شرطه أن يرى روحانية شيخه متصلة به، لا ينحجب عنه شيخه لاتصال روحه بمريد آخر، بل روحانية الشيخ تمد مريديه كلهم ولو كانوا مائة ألف ألف مثلا، وليحذر أن يرفض واسطة شيخه له ويتوجه إلى الله بلا واسطة، فإنه يتمزق ولا يحصل على طائل لجهله بالله عز وجل"[4].
ويقول أيضا:" الشيخ هو كعبة المريد التي يتوجه إليها في سائر مهماته"[5].
كما يقول:" ومن شأنه دوام ربط قلبه مع الشيخ والانقياد له ورؤية اعتقاده أن الله تعالى جعل جميع إمداده لا يخرج إلا من باب شيخه، وأن شيخه هو المظهر الذي عينه الله تعالى للإفاضة عليه منه، ولا يحصل له مدد وفيض إلا بواسطته"[6].
ويشترط في الشيخ المرشد أن يكون مأذونا له بالإرشاد من شيخه ليكون متصل المدد، وهذا الشيخ الواصل هو وسيلة المريد إلى ربه، والباب الذي يدخل منه على الله، ومن لا شيخ له يرشده فشيخه الشيطان-كما يقولون-[7].
وفي هذه الدعاوي غلو كبير وخطر عظيم، لأنها تتضمن إلغاء وتعطيلا لدور القرآن الكريم والسنة النبوية في تزكية النفس وإرشاد الناس، فالقرآن والسنة في ذاتهما هاديان إلى الله تعالى ومزكيان للروح والنفس أيما تزكية، والتمسك بهما عصمة ونجاة ولا يزيغ عنهما إلا هالك.
وقد رد الإمام ابن تيمية دعوى الصوفية بأن السلوك لا يتلقى إلا عن طريق المرشد فقال:" إن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، ولكن كثيرا من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ"[8].
3- الطاعة المطلقة للشيخ والغلو في محبته وأوصافه:
ولهم في التأكيد على ذلك أقوال كثيرة وشطحات كبيرة، واليك بعض النماذج:
يقول الشعراني:" وأجمعوا على أن من شرط الحب لشيخه أن يصم أذنه عن سماع كلام أحد في الطريق غير شيخه، فلا يقبل عذل عاذل"[9].
ويقول أيضا:" فيا سعادة من حصر أنفاسه مع الشيخ، وانسلخ من إرادات نفسه وأفنى مراده في مراد شيخه، ومزجت روحه على حكم الملاصقة ليرتقي من حكم عدم الاختيار مع الشيخ إلى عدم الاختيار مع الله تعالى، ويصير يفهم عن الله تعالى كما يفهم من الشيخ"[10].
ويقول السهروردي:" وهكذا أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره"[11].
وهذا الغلو في تعظيم الشيخ والتسليم له في جميع الأمور وأن يكون المريد مسلوب الاختيار أمام الشيخ مما لا يقره شرع ولا عقل، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يؤدي إلى تزكية نفوس المريدين لأنه يهدم أساسا من أبرز الأسس العقدية للتزكية وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، فالطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ورسوله، وكل إنسان مهما علت مرتبته يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن هذا الغلو يؤدي إلى شرك في الطاعة والعبادة.
وقد نبه القشيري وهو من كبار شيوخ الصوفية، على أنه لا ينبغي للمريد أن لا يعتقد في المشايخ العصمة[12].
فلماذا إذا الطاعة المطلقة وسلب الاختيار أمام الشيخ!!
ثم إن المتأمل لما امتلأت به كتب التصوف من الغلو في أوصاف شيوخهم وتقدسيهم يصاب بالدهشة.
يقول الشعراني:" مرشدك إلى الحق تعالى هو العين التي ينظر الحق بها إليه باللطف والرحمة، وهو وجه الحق الذي يقبل بواسطة عليه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، فاعرف والزم"[13].
ويقول أيضا:" إن الشيخ ولو قلت أعماله الظاهرة فهو بباطنه، وكل يوم من أيام الاستاذ عند ربه كألف سنة مما يعد المريدون عند ربهم"[14].
ويقول التيجاني:" أما ما هي حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية، نظرًا عينيًا وتحقيقًا يقينًا، فهذا هو الشيخ الذي يستحق أن يطلب، ومتى عثر المريد على من هذه صفته فالازم في حقه أن يلقي بنفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة، ولا إعطاء له ولا إفادة، ومتى أشار عليه بعمل أو أمر فليحذر من سؤال لم؟ وكيف؟ وعلام؟ ولأي شيء؟ فإنه باب المقت والطرد"[15].
ثم يقول:" وأما الشيخ الذي هذه صفته وكيف يتصل به وبماذا يعرف؟ فالجواب: أن الشيوخ المتصفين بهذا الأمر كثيرون، وأما معرفتهم والاتصال بهم فإنه عسير أغرب وجودا من الكبريت الأحمر"[16].
ويعلل صعوبة الوصول إلى هؤلاء الشيوخ بأنهم اختلطوا بأنهم اختلطوا بصور العامة وأحوالهم، واختفوا عن غيرهم بإظهار بعض المنكرات والفواحش التي هي تصورات خيالية يراها غيرهم حقيقة، وما فعلوا ذلك إلا استتارا لهم عن العامة حفظا لمقاماتهم وتحريرا لآدابهم[17].
فانظر كيف يتمادى الغلو بصاحبه حتى يخرجه عن هدي النبوة ومقتضى العقل السليم!!.
إذ كيف تكون التزكية محصورة بطريق الشيخ ثم يختفي الشيخ عن أعين الناس ليكون البحث عنه عسيرا ووجوده أندر من الكبريت الأحمر؟!
وماذا يفعل طالبوا التزكية وهم عامة المسلمين بعد أن كانت تسد عليهم الأبواب؟ وكيف يسلمون أمورهم ويقدمون الطاعة المطلقة لمن يتظاهر بشيء من المنكرات ليستتر عن أعين الناس ولا يعرف أنه من الشيوخ؟! وكيف يكون شيخهم هذا قدوة لهم في سلوكهم؟
ولا شك أن هذا كله من تلبيس الشيطان، ولا يمكن لقاصد طريق التزكية أن يجد بغيته مع هذا الغلو والانحراف إلا إذا أراد تزكية بعيدة عن المنهج الإسلامي القويم.
ومهما علت رتبة الشيخ ومنزلته عند ربه فلا تجوز الطاعة المطلقة له، وإنما يطاع فيما يوافق الكتاب والسنة، فهي طاعة مبصرة وليست طاعة عمياء.
وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:" إن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامة يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا، وإن كان صاحبه من أولياء الله"[18].
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.