الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة على العالمين، ثم أما بعد؛ يعد التوكل الصوفي هو الأصل الثالث المؤسس للعبادة في التصوف فبعدما تبني الحب الصوفي-المخالف للشرع- وجعلوه أصلا أولا مؤسسا للتصوف، وألحقوا به أصله الثاني المتعلق بموقفهم من الدنيا-والمخالف للشرع أيضا-، ختموا أصول العبادة الصوفية بالتوكل الصوفي، الذي أعطوه مفهوما صوفيا لا شرعيا، برروا به سلبيتهم وتركهم للعمل، بدعوى التفرغ للعبادة والتوكل على الله، فجاء توكلهم موافقا ومنسجما واستجابة لموقفهم من الدنيا، فما حقيقة التوكل الصوفي؟ ولماذا قال به الصوفية؟ وهل هو توكل شرعي؟
من أقوال وروايات شيوخ الصوفية المؤسسة للتوكل الصوفي ما رواه عبد الكريم القشيري عن سبب تصوف أبي علي شقيق بن إبراهيم البلخي فقال:" قيل: كان سبب توبته: أنه كان من أبناء الأغنياء، خرج للتجارة إلى أرض الترك، وهو حدث، فدخل بيتا لأصنام، فرأى خادما للأصنام فيه، قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثيابا أرجواينة، فقال شقيق للخادم: إن لك صانعا حيا عالما، قادر فاعبده، ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فقال: إن كان كما تقول، فهو قادر على أن يرزقك ببلدك، فلم تعنيت إلى هاهنا للتجارة؟ فانتبه شقيق، وأخذ في طريق الزهد"[1].
و"قيل: كان سبب زهده: أنه رأى مملوكا يلعب ويمرح في زمان قحط، وكان الناس مهتمين به، فقال شقيق: ما هذا النشاط الذي فيك؟ أما ترى ما فيه الناس من الجدب والقحط؟ فقال: ذلك المملوك: وما علي من ذلك، ولمولاي قرية خالصة يدخل له منها ما يحتاج نحن إليه، فانتبه شقيق، وقال: إن كان لمولاه قرية، ومولاه مخلوق فقير، ثم إنه ليس يهتم لرزقه، فكيف ينبغي أن يهتم المسلم لرزقه ومولاه غني؟"[2].
ومن أقوال شقيق البلخي في التوكل:" وتفسير التوكل على الله أن تعرف أن الله تعالى خلقك وهو الذي ضمن رزقك وتكفل برزقك ولم يحوجك إلى أحد وأنت تقول بلسان والذي يطعمني ويسقيني فهذا التوكل على الله..."[3].
وقال حاتم الأصم البلخي عن نفسه:" ما من يوم إلا والشيطان يقول لي: ماذا تأكل؟ وماذا تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر"[4].
وقال أيضا:" من دخل مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت:...وموتا أخضر، وهو: طرح الرقاع بعضها على بعض"[5].
وسئل الحارث بن أسد المحاسبي عن التوكل فقال:" التوكل هو الاعتماد على الله بإزالة الطمع من سوى الله وترك تدبير النفوس في الأغذية والاستغناء بالكفاية وموافقة القلب لمراد الرب والقعود في طلب العبودية واللجأ إلى الله"[6].
وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال:" لا يصح الكسب لأهل التوكل إلا لاتباع السنة، ولا لغيرهم إلا للتعاون"[7].
وعن أبي سعيد الخراز البغدادي أنه قال:" كنت في ابادية، فنالني جوع شديد، فطالبتني نفسي بن أسأل الله طعاما، فقلت: ليس هذا من فعل المتوكلين، فطالبتني نفسي بأن أسأل الله صبرا، فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يقول:
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا
ويسألنا القوى عجزا وضعفا كأنا نراه ولا يرانا"[8]
وقال إبراهيم بن أحمد الخواص:" والرزق ليس فيه توكل وإنما فيه صبر حتى يأتي الله به في وقته الذي وعد"[9]، وحكي عن نفسه:" حجبت أربع عشرة حجة، حافيا، على التوكل فكان يدخل في رجلي شوكة فأذكر أني اعتقدت في نفسي التوكل، فأحكها في الأرض وأمشي"[10].
وسئل أبو عبد الله بن سالم البصري:" أنحن مستعبدون بالكسب، أم بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استن الكسب لمن ضعف عن حال التوكل، وسقط عن درجة الكمال، التي هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أطاق التوكل، فالكسب غير مباح له بحال، إلا كسب معاونة، لا كسب اعتماد عليه، ومن ضعف عن حال التوكل، التي هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبيح له طلب المعاش والكسب، لئلا يسقط عن درجة سنته، حيث سقط عن درجة حاله"[11].
وقال أبو طالب المكي:" قد يفضل التارك للتكسب غشلا بالعبادة عن المتكسب، من حيث فضل المتقدمون الزهاد في الدينا على كاسب المال حلالا ومنفقه في سبيل الله، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كفى بالموت واعظا وبالتقوى غنى وبالتقوى شغلا" وقد علم التارك للتكسب توكلا على الله وثقة به ورعاية لمقامه وصبرا على فقره وشغلا كل إليه عمل الآخرة، وأنه إن شغل بما وكله إليه من عمل آخرته أقام له من يقوم بكفايته من دنياه"[12].
وعني أبي علي الدقاق أنه قال:" التوكل: صفة المؤمنين، والتسليم: صفة الأولياء، والتفويض: صفة الموحدين، فالتوكل: صفة العوام، والتسليم: صفة الخواص: والتفويض صفة خواص الخواص.
وسمعته يقول: التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم عليه السلام، والتفويض: صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم"[13].
وقال أبو سليمان الدراني:" لو توكلنا على الله ما بينينا الحائ ولا جعلنا لباب الدار غلقا مخافة اللصوص"[14].
وعن ذي النون المصري أنه قال:" التوكل: ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة"[15].
وقال أبو يزيد البسطامي :" لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون: ثم وقع لك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل"[16]، وقيل له:" ما نراك تشتغل بالكسب، فمن أن معاشك؟ فقال: مولاي يرزق الكلب والخنزير، تراه لا يرزق أبا يزيد"[17].
وعن الصوفي أبي حمزة الخرساني أنه قال:" حججت سنة من السنين، فبينما أنا أمشي في الطريق، إذ وقعت في بئر فنازعتي نفسي أن أستغيث، فقلت: لا والله، لا استغيث فما استتمت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان: فقال أحدهما للآخر: تعال حتى نسد رأس هذه البر، لئلا يقع فيه أحد، فأتوا بصب وبرابة، وطمو رأس البئر، فهممت أن أصيح ثم قلت في نفسي: أصيح إي من هو أقرب منهما وسكنت، فبينما أنا بعد ساعة، إذا أنا بشيء جاء، وكشف عن رأس البئر، وأدلى رجله، وكأنه يقول لي: تعلق بي، في همهمة له كنت أعرف ذلك منه، فتعلقت به، فاهخرجني، فإذا هو سبع، فمر، وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة، أليس هذا أحس، نجيناك من التلف بالتلف"[18]، وعند الهجويري أن الذي دل رجله حية وليس سبع[19].
وقال أبو محمد رويم بن أحمد الغبدادي:" التوكل اسقاط رؤية الوسائط، والتعلق بأعلى العلائق"[20].
وقال عبد الكريم القشيري:" سمعت أحمد بن علي الوجيهي يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: حج حسن القزاز الدينوري رحمه الله اثنتي عشرة حجة حافيا، مكشوف الرأس، فكان إذا دخل في رجله الشوك يمسح رجله بالأرض ويمشي ولا يطأطئ رأسه إلى الأرض من صحة توكله"[21]ز
وسئل أبو يعقوب إسحاق النهرجوري عن التوكل فقال:" موت النفس عند ذهاب حظوظها من أسباب الدنيات والآخرة"[22].
وقال المؤرخ الصوفي السراج الطوسي :" التكسب رخصه لمن لم يطق حال التوكل"[23]، وقال أيضا:" التوكل تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة"[24].
الهوامش
[1] القشيري: الرسالة القشيرية، (1/55).
[2] المرجع السابق،(1/55).
[3] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (8/61).
[4] القشيري: الرسالة القشيرية، (1/63).
[5] المرجع السابق.
[6] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (10/104).
[7] الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف(97).
[8] المرجع السابق (168-169).
[9] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (10/328).
[10] القشيري: الرسالة القشيرية (77).
[11] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، (312).
[12] أبو طالب المكي: قوت القلوب، (1/414).
[13] القشيري: الرسالة القشيرية (1/203).
[14] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء،(9/256)
[15] القشيري: الرسالة (76).
[16] القشيري: الرسالة القشيرية (75).
[17] السهروردي: عوارف المعارف (103).
[18] الهجويري: كشف المحجوب (358)، والقشيري: الرسالة (79).
[19] الهجويري: كشف المججوب (358).
[20] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية (62).
[21] القشيري: الرسالة القشيرية(125).
[22] السراج الطوسي: اللمع (79).
[23] السراج الطوسي: اللمع، (524).
[24] السراج الطوسي: اللمع، (78).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.