نقد مسألة الخرقة عند الصوفية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ..وبعد
أولًا: بطلان سند الخرقة المزعوم
كما تقدم أن لدى الصوفية ما يسمونه الإسناد في الخرقة، ويزعمون اتصال سلسلة إسناد شيوخهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والأكثر يجعلون سندها إلى علي بن أبي طالب والأشهر عن الحسن البصري عن علي رضي الله عنه.
والناظر في حقيقة هذه الأسانيد يجد أنها كذب واختلاق لا يثبت منها شيء وإليك نقول أهل العلم في بيان بطلان تلك الدعوى:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي، فإن الجنيد صحب السري السقطي، والسري صحب معروف الكرخي بلا ريب.
وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع، فتارة يقولون إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا، وهذا باطل قطعا، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل، ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه أنه اجتمع به، أو أخذ عنه شيئا، بل ولا يعرف أنه رآه، ولا كان معروف بوابه، ولا أسلم على يديه، وهذا كله كذب.
وأما الإسناد الآخر: فيقولون: إن معروفا صحب داود، وهذا أيضا لا أصل له، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها، فوي إسناد الخرقة أيضا أن الحسن صحب داود الطائي صحب حبيابا العجمي، وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة، وفيها أن الحسن صحب عليا، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي، وإنما أخذ عن أصحاب علي، أخذ عن الأحنف بن قيس، وقيس بن عباد وغيرهما عن علي وهذا رواه أهل الصحيح.
والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقتل عثمان وهو بالمدينة كانت أمه أمة لأم سلمة، فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة، وكان علي بالكوفة، والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر".
وقال أيضا في منهاج السنة عند ذكر علي بن موسى"وما يذكره بعض الناس أن معروفا الكرخي كان خادما له، وأنه أسلم على يديه، أو أن الخرقة متصلة منه إليه فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن".
وقال في الفتاوى عن صحبة الحسن لعلي رضي الله عنه:" وقد اتفق أهل المعرفة بالمنقولات أن الحسن لم يصحب عليا ولم يأخذ عنه شيئا".
وقال السخاوي رحمه الله في المقاصد الحسنة:" حديث لبس الخرقة الصوفية وكون الحسن البصري لبسها من علي قال ابن دحية وابن الصلاح إنه باطل، وكذا قال شيخنا: إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه ولا أمر أحدا من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحا فباطل، وقل: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن عليا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبوا للحسن بن علي سماعا فضلا عن أن يلبسه الخرقة.
وقد نص على بطلان حديث إلباس علي الخرقة للحسن العلامة عبد الرحمن بن علي اليباني الشافعي، ومحمد بن عبد الباقي الزرقاني، وإسماعيل بن محمد العجلوني، وقال الشوكاني: باطل لا اصل له.
كما نص على بطلانه ملا علي القاري.
وقد حاول السيوطي إثبات سماع الحسن من علي:" وليس ذلك بأولى من إنكار أئمة الحديث له، ثم هو لا يثبت الدعوى الخاصة التي هي لباس الخرقة".
ومن وجه آخر فإن تحصيص علي رضي الله عنه بشيء من الدين هو من بدع الرافضة وقد اشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته عند ذكره لتأثر الصوفية بالرافضة"حتى إنهم لم أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوا أصلا لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى".
وكذا حال سند الخرقة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لبس عمر للخرقة وإلباسه ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخرقة وإلباسه يعرف كل من له أدني معرفة أنه كذب".
وقال علي ملا قاري بعد ذكره لبطلان الخرقة المنسوبة إلى علي رضي الله عنه من طريق الحسن البصري:" وكذا نسبة الخرقة إلى أويس وأنه عليه الصلاة والسلام أوصى بخرقته لأويس، وأن عمر وعليا سلماها إليه وأنها وصلت إليه منه، وهلم جرا فغير ثابت، ولو ذكره بعض المشائخ فالمراد على طريقة الصحة، ومتابعة الكتاب والسنة، ومجانبة الهوى، ومقاربة الهدى والعقابة للتقوى".
فلبس الخرقة بدعة مذمومة لم يثبت بنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، وفي تقرير ذلك بقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" وقد عُقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريدهم خرقة، ولا يقصون شعروهم، ولا التابعون، ولكن هذا فعله بعض مشائخ المشرق من المتأخرين".
وقال ابن الجوزي وهو يتحدث عن الصوفية:" وقد قرروا أن هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ وجعلوا لها إسنادا متصلا كله كذب ومحال".
بل حتى الصوفية تصرح بعدم ثبوت سند للخرقة وفي ذلك يقول الشعراني:" إن سند التلقين ولبس الخرقة كان السلف يتناولونها فيما بينهم من غير ثبوت من طريق المحدثين".
وأما استدلالهم بحديث أم خالد، وحديث البردة على مشروعية الخرقة فهو استدلال لا تقوم به حجة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر أن لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين، ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة وساق الحديثين:" وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه، فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه، وأخذ ثوب من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة، وليس هذا كلباس ثوب أو قلنسوة على وجه المتابعة والاقتداء".
وقال ابن الجوزي في رده استدلال الصوفية بحديث أم خالد:" قلت إنما ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونها حبيبة، وكان أبوها خالد بن سعيد بن العاص، وأمها هيمنة بنت خلف، قد هاجر إلى أرض الحبشة فولدت لها هناك أم خالد واسمها أمة ثم قدموا فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لصغر سنها، وكما اتفق فلا يصير هذا سنة، وما كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلباس الناس، ولا فعل هذا أحد من أصحابه وتابعيهم".
وأما استنباط السيوطي لجواز الخرقة بتعميم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف فاستنباط قد جانبه الصواب فيه، وهو في غير محله إذ حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في لبس العمامة وكيفيتها، وأين لبس العمامة مع لبس الخرقة الذي له شرائط وآداب لا تتحقق في كل أحد.
وبهذا يتبين بطلان سند الخرقة وليس هو بأول بدعة عند الصوفية بل لا زالوا يتفننون في وضع الإسناد ليربطوا طرقهم بعظماء الزهاد وإن اشتملت على ضروب من الضلال والفساد حتى جاء في العصور المتأخرة من اختصر الإسناد وادعى أنه تلقى طريقته من خاتم الأنبياء من غير واسطة.
ثانيًا: بيان أن لبس الخرقة مأخوذ من الديانات السابقة:
-الناظر في كتب تاريخ الأديان يجد أن اتخاذ الصوفية للخرقة مشابه لما اتخذه بعض الديانات من لباس يعتبر شعارا مقدسا في دياناتهم، يمنح لأهل الزهد الرهينة.
"فمن أبرز خصائص الرهبان البوذين لبس اللباس الأصفر وهو عبارة عن قطعتين من القماش المصبوغ بالأصفر، يتخذون إحداهما إزارا والأخرى رداء على شكل لباس الإحرام، ويضعون فوقهما بعض الرقعة، دلالة على الزهد، والفقر والمهانة، ولا يلبسون غير هذا اللباس طوال مدة رهبانيتهم.
والبوذيون يقدسون هذا اللباس إلى حد بعيد، ويعتبرونه شعارا مقدسا في ديانتهم".
جاء في كتاب"بودا دهارما" إن اللباس الأصفر رمز مقدس لرهبانية بوذا، فلا يلبسه إلا الرهبان لأنهم يمثلون شخص بوذا".
وكان هذا اللباس في القديم عبارة عن الخرق الملتقطة من المزابل أو أكفان الموتى.
فقد جاء في كتاب "تري بيتاكا" أن رجلا يدعى"جيفاكا" وكان طبيبا للملك" يميسارا" قصد إلى بوذا ليهدي إليه الثوب المصبوغ من أجود الصوف فرفض بوذا قائلا:
"إن بوذا" غوتاما" لا يلبس إلا رداء منسوجا من الخرق المتقطعة من المزابل، أو من بقايا أكفان الموتى، وهو ما يجب أن يرتديه الأخوة الرهبان الزهاد".
ومن هنا وردت حكايات كثيرة عن الرهبان في القديم الذين يرفضون الهدايا من الثوب، ويفضلون لبس الخرق التي يلتقطونها من المزابل ومن أكفان الموتى فيرقعونها، ويصبغونها بالأصفر.
ويروى عن بوذا أنه كان يلبس هذه الخرقة الصفراء تلاميذه الأوائل الذين اندمجوا في جماعة الرهبان.
ولا زال هذا المسلك عند البوذية إلى اليوم وفي ذلك يقول د. عبد الله نومسوك"وعلى هذا فقد جرت عادتهم إلى الآن أن شيخ المعبد أو مثله هو الذي يلبس اللباس الأصفر المرقع للرهبان المبتدئين".
فيتضح أن لبس الخرقة على الهيئة لتي يعتمدها بعض طرق الصوفية يرجع أصله إلى الديانة البوذية التي جعلت من خصائص الرهبان البوذيين لبس الخرقة الصفراء والاعتقاد بقداستها.
هذا التشابه والتوافق حدا بالمستشرق جولد زهير أن يقول:" ومما يدل على أثر العقائد الهندية أن المريد عندما يتم قبوله في الجماعة الصوفية يمنح خرقة تعتبر رمزا للفقراء واعتزال الدنيا، وقد أجادت القصص الصوفية تبعا لأسلوبها ومنهاجها أصلا للخرقة في السيرة النبوية وربطت موضوعا بالنبي نفسه".
وقال:" ولكن لا نستطيع أن نتجاهل أن الخرقة كرمز للاندماج في الجماعة الصوفية تشبه طريقة الاندماج في جماعة"البهكشو" الهندية الذي يتم بتسليم الثوب، ومعرفة القواعد والآداب التي يتحتم على المريد اتباعها".
ومن وجه آخر فإن لبس الصوف الذي كان سببا في تسمية الصوفية بهذا الاسم مما عرف به رهبان النصارى فقد روى ابن الجوزي أن حماد بن أبي سليمان قدم البصرة فجاءه فرقد السبخي وعليه ثوب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه.
ونقل عن أبي العالية أنه جاءه رجل وعليه ثياب صوف فقال له أبو العالية: إنما هذه ثياب الرهبان.
ويذكر الجاحظ أن النصراني إذا أراد أن يتنسك يلبس الصوف.
فالخرقة إذا بدعة مذمومة ومشابهة قبيحة للديانات السابقة.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.