الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...لمْ يصرحْ معظمُ الصوفيةِ بكلامٍ واضحٍ صريحٍ أنَّ شيوخَهم يعلمون الغيبَ، لكن بعضَهم قالَ ذلكَ عندما أثبتَ لهم العصمةَ والفراسةَ والحفظَ.
ومنهم منْ قالَ بعلمِهم الغيبَ بالإشارةِ دونَ العبارةِ، لكن كلَّهم أثبتَ لهم علمَ الغيبِ عندما قالوا بوحدةِ الوجودِ - الفناء في الله -، بحكمْ أنَّ الصوفيَّ هنا يصبحُ هوَ الله؛ ومنْ ثَمَّ فهو يعلمُ ما كانَ وما سيكونُ بحكمِ أنَّه أصبحَ ربًّا وإلهًا، وقدْ سبقَ أنْ فصَّلْنَا أقوالَهم المتعلقةَ بوحدةِ الوجودِ، فلا نعيدُها هنا.
ومنْ أقوالِهم التي أثبتَتْ العصمةَ لشيوخِهم أوْ لبعضِهم:
القولُ الأولُ: أنَّ أبا الحسن الهجويري ذكرَ أنَّ أبا القاسم الجنيد كانَ يعلمُ أسرارَ مريديه، وقالَ لبعضِهم: (إنَّكَ لم تَعْرِفْ أولياءَ اللهِ تعالى، هُمْ أولياءُ الأسرارِ)([1]).
القولُ الثاني: سُئِلَ أبو القاسم الجنيد: (مَن العارف؟ فقالَ: مَنْ نَطَقَ عَنْ سِرِّكَ وَأنت ساكتٌ)([2]).
القولُ الثالثُ: عنْ أبي عبدِ اللهِ يحيى بن الجلاء أنَّه سُئِلَ: ما معنى قولهم صوفي؟ فقالَ: (ليسَ نَعْرِفُهُ فِي شَرْطِ العلمِ، ولكنْ نعرفُ أنَّ مَنْ كانَ فقيرًا مُجردًا مِن الأسبابِ، وكانَ مع اللهِ تعالى بلا مكانٍ، ولا يمنعُه الحقُّ سبحانه عَنْ عِلْمِ كُلِّ مكانٍ يُسمَّى صوفيًّا)([3]).
القولُ الرابعُ: عنْ أبي سعيد الخراز أنَّه قالَ: (دخلتُ المسجدَ الجامعَ، فرأيتُ فقيرًا – صوفيًّا - عليه خرقتان، فقُلْتُ في نفسِي: هذا وأشباهُهُ كَلٌّ على النَّاسِ، فنادانِي وتلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، فاستغفرتُ اللهَ في سري، فناداني وقالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، ثُمَّ غابَ عني فَلَمْ أَرَهُ)([4]).
والقولُ الأخيرُ - الخامس -: قالَ أبو بكر الكلاباذي: (سمعتُ أبا الحسن الفارسي يقولُ: قالَ لي أبو الحسن المزين: دَخَلْتُ الباديةَ وَحْدِي على التجريدِ، فلمَّا بَلَغْتُ العمقَ قعدتُ على شفيرِ البركةِ، فحدثتني نفسِي بقطعِها الباديةَ على التجريدِ، وَدَخَلَهَا شيءٌ مِن العُجْبِ، فإذَا أنَا بالكتاني - أو غيره الشك مني - منْ وراءِ البركةِ، فناداني: يا حجام، إلى كَمْ تُحَدِّثُ نفسَك بالأباطيل؟)، ويُروى أنَّه قالَ له: (احفظْ قلبَك، ولا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بالأباطيل)([5]).
وقدْ جَعَلَ الكلاباذي الحادثتين - القولين الرابع والخامس - مِن الفراسةِ، ثُمَّ قَالَ: (يشهدُ لصحةِ الفراسةِ: مَا حَدَّثَنَا أحمد بن علي قالَ: حدثنا ثوابُ بنُ يزيد الموصلي، حدثنا إبراهيمُ بنُ الهيثم البلدي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاويةُ بن صالح، عنْ راشد بن سعيد، عنْ أبي أمامة الباهلي قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((اتقوا فراسةَ المؤمنِ؛ فَإِنَّهُ ينظرُ بنورِ اللهِ)))([6]).
وردًّا عليهم أقولُ:
أولًا: إنَّ القولَ بأنَّ شيوخَ الصوفيةِ يعلمون الغيبَ أوْ غيرَهم مِنَ البشرِ، هوَ قولٌ باطلٌ قطعًا؛ لأنَّه مخالفٌ لطبيعةِ البشرِ وما هو مُشَاهَدٌ مِنْ أحوالِهم، فالإنسانُ بما أنَّه إنسانٌ لَنْ يَعْلَمَ الغيبَ أبدًا.
نعمْ يستطيعُ أنْ يجتهدَ ويقرأَ المستقبلَ بالماضي والحاضرِ ليستشرفَ المستقبلَ، وهنا ربما يصيبُ ويخطئُ، وإذا أصابَ في أكثرِ اجتهاداتِه فهذا ليسَ عِلْمًا بالغيبِ، وحتى إذا لمْ يُخْطِئ في أكثرِ قراءاتِه فهنا يُقَالُ إنه لمْ يُخطئ، ولا يُقالُ: إنَّه لا يُخطئ.
وباطلٌ أيضًا بدليلِ الشرعِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى استأثرَ بالغيبِ، لا يعلمُه إلا هو سبحانه، كمَا في قولِه تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
وقولِه تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].
وقولِه تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50].
وقولِه تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وقولِه تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20].
وقولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].
وباطلٌ أيضًا مِنْ أحوالِ الصوفيةِ أنفسِهم، فقدْ كانَ شيوخُهم يسألون بعضَهم بعضًا عَنْ مُخْتَلَفِ قضايا التصوفِ وعنْ أحوالِهم، ويأخذون ويقتدون ببعضِهم، وأحيانًا يعترفُ بعضُهم بعجزهِ عنْ الجوابِ، ويختلفونَ في مواقفِهم مِنْ بعضِ مسائلَ التصوف، كاختلافِهم في السماعِ الصوفي، بَلْ إنَّ السراجَ الطوسي غَلَّطَ كثيرًا منهم كما بيَّنَّاه سابقًا، وكتبُهم تشهدُ على ذلكَ بعشراتِ الرواياتِ([7]).
ولوْ كانوا يعلمون الغيبَ ما فعلوا ذلكَ؛ لأنَّ الذي يعلمُ الغيبَ لا يسألُ غيرَه عنْ أي أمرٍ مِنَ الأمورِ، وبما أنهم فعلوا ذلكَ دَلَّ هذا قطعًا على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيبَ.
وثانيًا: إنَّ قولَ الكلاباذي بأنَّ الحادثتين - الرابعة والخامسة - يدلان على الفراسةِ، ويشهدُ لهما حديثُ: ((اتقوا فراسةَ المؤمنِ؛ فَإِنَّهُ ينظرُ بنورِ اللهِ))، هو قولٌ لا يصحُّ، ويشهدُ على تَدَخُّلِه في توجيهِ الحادثتين لغايةٍ في نفسِه، لأنَّ الحادثتين لم تذكرا الفراسةَ، ولا أشارتا إليها مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ.
بلْ إنَّ الرابعة صرَّحَتْ بعلمِ الصوفي للغيبِ؛ فقالَ: (فالتفتَ إليَّ فقالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235])، فالرجلُ صَرَّحَ بأنَّه يعلمُ الغيبَ، ولم يَقُلْ أنَّ ذلكَ مِنَ الفراسةِ، وهذا يعني أنَّ الكلاباذي تدخَّلَ عنْ قصدٍ لتأويلِ كلامِ الصوفي الذي اعترفَ أنَّه يعلمُ الغيبَ، وحَمَلَهُ على أنَّه يقصدُ الفراسةَ لا عِلْمَ الغيبِ.
لأنَّ الكلاباذي يعلمُ أنَّ القولَ به مخالفٌ للشرعِ، ويجدُ معارضةً مِنَ المسلمين، ويكشفُ أنَّ الصوفيةَ يعتقدون بأنَّ شيوخَهم يعلمون الغيبَ، وهذا لا يريدُ الكلاباذي أنْ يعرفَه المسلمون، لتبقى أسرارُ الصوفيةِ مجهولةً لديهم، ويستمرون في ممارستِهم للتقيةِ وَتسترِهم بالإسلامِ.
وأمَّا الحديثُ الذي احتجَّ بِهِ فَقَدْ سَبَقَ أنْ بَيَّنَّا أنَّه ضعيفٌ، وَقيلَ أنَّه موضوعٌ، وحتى إذا فرضنا جدلًا أنَّه صحيح، فهو لا يتكلمُ عَنْ عِلْمِ الغيبِ، ولا يتعلقُ بالصوفيةِ، وإنما يتعلقُ بالمؤمنين الاتقياءِ، فهوَ صريحٌ بأنه يتحدثُ عَنْ المؤمنِ المسلمِ الملتزمِ بشريعةِ اللهِ، ولا يتحدثُ عَنْ الصوفي الملتزمِ بالعبادةِ الصوفيةِ.
والحديثُ متنُه صحيحٌ بصفةٍ عامةٍ، لكنَّه محكومٌ بالنصوصِ الشرعيةِ الأخرى، فهوَ يندرجُ ضمنَ قولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، وقولِه تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
لكن هذا لا يجعلُه معصومًا ولا عالمًا بالغيبِ؛ لأن الغيبَ لا يعلمُه إلَّا الله تعالى، ولأنَّه سبحانه أَمَرَنَا باتباعِ شريعتِه وحذَّرَنَا مِنْ مخالفتِها، ومنْ جهةٍ أخرى أَمَرَنَا بالردِّ إلى اللهِ ورسولِه عندَ الاختلافِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
فلمْ يأمرْنا بالردِّ إلى بعضِنا، ولا إلى شيوخِ الصوفيةِ، ولا إلى الهواتف والخواطر والفراسات، لأنَّ نورَ الإيمانِ يتقوى به المؤمنُ ليزدادَ التزامًا بالشرعِ، وليكونَ له عونًا في جهادِه لنفسِه ولأعدائِه، ولا علاقةَ له أبدًا بمزاعم الصوفيةِ في قولِهم بالكشفِ وَعِلْمِ الغيبِ والفراسةِ.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.