الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يتصاعدُ اهتمامُ الدولِ بالسياحةِ باعتبارِها رافدًا اقتصاديًّا مهمًّا، وسبيلًا لنشرِ الثقافةِ والحضارةِ التي للدولةِ بينَ الدولِ، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الأهدافِ الأخرى، ويتنامى الحديثُ في وسائل الإعلامِ باختلافِ أنواعِها حولَ السياحةِ في المملكةِ العربيةِ السعودية، وتتزايدُ الضغوطُ والمطالِبُ والاهتماماتُ([1])، مِنَ الداخلِ والخارجِ حولَ السياحةِ في الأماكن المقدسةِ، والتي يُطالَبُ فيها بمطالبَ عديدةٍ، سأعرضُ لمطلبين مِنْ هذه المطالب:
المطلبُ الأولُ:
المطالبةُ بدخولِ غيرِ المسلمين إلى مكةَ المكرمةِ بحجةِ الانفتاحِ الحضاري بينَ الشعوبِ، وعدمِ التمييزِ الديني بينها، وغير ذلكَ مِنَ الحججِ الواهيةِ، ووصلَ الأمرُ إلى منعِ السعودية مِنْ دخولِ منظمةِ التجارةِ العالميةِ بسببِ هذه الأمرِ وغيرِه مِنَ المطالب.
وللهِ الحمدُ والمنةُ، فإنَّ ولاةَ هذه البلادِ المباركةِ لم يخضعوا لمثلِ هذه المطالب التي يُرادُ بها دَكُّ الإسلامِ في معقلِه وحصنِه المنيعِ، وهذه الدولةُ إنما قامتْ على الإسلامِ، ونظامُها الأساسي ولوائحُها تعتمدُ الإسلامَ منهجًا ودستورًا.
ولهذا أنَّى لها أنْ تنثني أمامَ هذه المطالب، والتي تتعارضُ معَ شريعةِ الإسلامِ، فقد جاءتْ الأدلةُ التي تنصُّ على تحريمِ دخولِ الكفارِ والمشركين إلى مكةَ المكرمةِ، وهذا مِنْ خصائصِها التي شرَّفَها اللهُ- عزَّ وجلَّ– بها؛ لأنَّ المشركين نَجَسٌ، وبلدُ اللهِ مطهرٌ مقدسٌ، فنجاسةُ كفرِهم تمنعُهم مِنْ دخولِ المسجدِ الحرامِ.
يقولُ اللهُ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وقدْ طبَّقَ النبيُّ- صلى اللهُ عليه وسلم - هذا الأمرَ الإلهي؛ فعنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: (بعثنِي أبو بكرٍ الصديق في الحجةِ التي أَمَّرَه عليها رسولُ اللهِ- صلى اللهُ عليه وسلم - قبلَ حجةِ الوداعِ في رهٍط يُؤَذِّنُون في الناسِ يومَ النحرِ: لا يَحُج بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيتِ عريانٌ)([2]).
يقولُ ابنُ حجر: (والآيةُ صريحةٌ في مَنْعِهِم مِنْ دخولِ المسجدِ الحرامِ ولوْ لم يقصدوا الحجَّ، ولكنْ لما كَانَ الحجُّ هوَ المقصودَ الأعظمَ صَرَّحَ لهم بالمنعِ مِنْهُ، فيكونُ ما وراءَه أولى بالمنعِ، والمرادُ بالمسجدِ الحرامِ هنا الحرمُ كُلُّه)([3]).
ويقولُ القرطبي: (يحرمُ تمكينُ المشركِ مِنْ دخولِ الحرمِ أجمع، فإذَا جاءَنَا رسولٌ منهم خَرَجَ الإمامُ إلى الحل ليسمعَ مَا يقولُ، ولوْ دَخَلَ مشركٌ الحرمَ مستورًا وماتَ نُبِشَ قبرُه وأُخْرِجَتْ عظامُه)([4]).
أما المطلبُ الثاني:
فهوَ المطالبةُ بتسهيلِ الوصولِ إلى بعضِ الأماكن في مكةَ المكرمةِ بالوسائل الحديثةِ، منها على سبيلِ المثالِ: إيصالُ الحجاجِ إلى جبلِ حراء وثور عَبْرَ العرباتِ المُعلقةِ، وقد قُدِّمَتْ دراساتٌ ومقترحاتٌ عديدةٌ لبعضِ الجهاتِ الحكوميةِ، وهذا المطلبُ ليسَ بجديدٍ بِلْ منذُ سنواتٍ عديدةٍ يُطَالَبُ بِهِ.
أذكرُ مثالًا على هذه المطالب ما كَتَبَهُ د/ فاروق أخضر، في مقالِه المنشور بجريدةِ الجزيرة بتاريخِ 1/1/1402هـــ، حيثُ دعا إلى تطويرِ الأماكنَ الأثريةِ في المملكةِ لزيارتِها مِنْ قِبَلِ المسلمين بصفةٍ مستمرةٍ، ولضمانِ دَخْلٍ آخر بَعْدَ نفاذِ البترول.
ومما استدلَّ به على مطلبِه قولُه: (إِنَّ السياحةَ الدينيةَ في المسيحيةِ في الفاتيكان تُعْتَبَرُ أحدُ الدخولِ الرئيسيةِ للاقتصادِ الإيطالي، وإنَّ إسرائيل قدْ قامتْ ببيعِ زجاجاتٍ فارغةٍ على اليهودِ في أمريكا على اعتبارِ أَنَّ هذه الزجاجات مليئةٌ بهواءِ القُدسِ)، كَمَا أشارَ إلى أنها ستؤدي إلى فوائدَ منها: (تثبيتُ العلمِ بالإسلامِ عِنْدَ الأطفالِ المسلمين).
وَقَدْ أجابَ على كلامِه الإمامُ عبدُ العزيز بن باز - رحمهُ اللهُ - فقالَ: (إِنَّ العنايةَ بالآثارِ على الوجهِ الذي ذَكَرَ يؤدي إلى الشركِ باللهِ -جل وعلا-؛ لأنَّ النفوسَ ضعيفةٌ ومجبولةٌ على التعلقِ بما تَظُنُّ أنَّه يفيدُها.
والشركُ باللهِ أنواعُه كثيرةٌ، غالبُ الناسِ لا يدركُها، والذي يقفُ عند هذه الآثارِ- سواء كانتْ حقيقيةً أو مزعومةً بلا حجةٍ - يتضحُ له كيفَ يتمسحُ الجهلةُ بترابِها وما فيها مِنْ أشجارٍ أوْ أحجارٍ، ويصلي عندها، ويدعو مَنْ نُسِبَتْ إليه ظَنًّا منهم أنَّ ذلك قربةٌ إلى اللهِ سبحانه، أوْ لحصولِ الشفاعةِ وكشفِ الكربةِ.
ويعينُ على هذا كثرةُ دعاةِ الضلالِ، الذين تِرَبَّتْ الوثنيةُ في نفوسِهم، والذين يستغلون مثلَ هذه الآثار لتضليلِ الناسِ وتزيينِ زيارتِها لهم، حتى يحصلَ بسببِ ذلك على بعضِ الكسبِ المادي، وليسَ هناك غالبًا مَنْ يُخْبِرُ زوارَها بأنَّ المقصودَ العبرةُ فقط بَلْ الغالبُ العكس.
ويشاهدُ العاقلُ ذلكَ واضحًا في بعضِ البلادِ التي بُليتْ بالتعلقِ بالأضرحةِ، وأصبحوا يعبدونها منْ دونِ اللهِ، ويطوفون بها كما يُطافُ بالكعبةِ باسمِ أنَّ أهلَها أولياء، فكيفَ إذا قيلَ لهم أنَّ هذه آثارُ رسولِ اللهِ- صلى اللهُ عليه وسلم -؟!
كمَا أنَّ الشيطان لا يفترُ عَنْ تَحَيُّنِ الأوقاتِ المناسبةِ لإضلالِ الناسِ؛ قَالَ اللهُ تعالى عن الشيطان أنَّه قالَ:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 82-83].
وقَالَ أيضًا سبحانه عنْ عدوِّ اللهِ الشيطان:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 16-17].
وقَدْ أغوى آدمَ فأخرجَه مِنَ الجنةِ، مَع أَنَّ اللهَ سبحانه حَذَّرَهُ منه وبيَّنَ له أنه عدوه.
وَمِنْ ذلكَ قصةُ بني إسرائيل مَع السامري، حينما وضعَ لهمْ مِنْ حُلِّيهم عِجْلًا ليعبدوه مِنْ دونِ اللهِ، فزينَ لهم الشيطانُ عبادتَه مَعْظهورِ بطلانِها.
ثَبُتَ في جامعِ الترمذي وغيرِه بإسنادِ صحيحٍ عَنْ أبي واقد الليثي - رضيَ اللهُ عنه - قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – إِلَى حُنَيْنٍ – وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ -، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ -: اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)).
شَبَّه قولَهم: ((اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ)) بقولِ بني إسرائيل: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة؛ فَدَلَّ ذلك على أنَّ الاعتبارَ بالمعاني والمقاصد، لا بمجردِ الألفاظِ.
وَلِعِظَمِ جريمةِ الشركِ وخطرِه في إحباطِ العملِ، نرى الخليلَ- عليه السلام - يدعو اللهَ لنفسِه ولبنيه فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36].
فإذا خَافَهُ الأنبياءُ والرسلُ وهمْ أشرفُ الخَلْقِ وأعلمُهم باللهِ وأتقاهُم له، فغيرُهم أولى وأحرى بأنْ يُخَافَ عليه ذلكَ، ويجبُ تحذيرُه منه، كما يجبُ سدُّ الذرائع المُوصِلَةِ إليه.
ومهما عملَ أهلُ الحقِّ مِن احتياطٍ أوْ تحفظٍ فلنْ يحولَ ذلكَ بينَ الجُهَّالِ وبينَ المفاسد المترتبةِ وتعظيمِ الآثارِ؛ لأنَّ الناسَ يختلفون مِنْ حيثُ الفهمِ والتأثرِ والبحثِ عنْ الحقِّ اختلافًا كثيرًا، ولذلك عبدَ قومُ نوح - عليه السلام -: ودًّا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق، ونسرًا، مع أنَّ الأصلَ في تصويرِهم هوَ تذكيرٌ بأعمالِهم الصالحةِ للتأسي والاقتداءِ بهم، لا للغلوِّ فيهم وعبادتِهم منْ دونِ اللهِ، ولكنَّ الشيطانَ أنسى مَنْ جاءَ بَعْدَ مَنْ صَوَّرَهُم هذا المقصدَ وزيَّنَ لهم عبادتَهم مِنْ دونِ اللهِ، وكانَ ذلكَ سببَ الشركِ في بني آدم.
روى ذلكَ البخاري - رحمهُ اللهُ - عنْ ابنِ عباس في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]: (أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ).
أمَّا التمثيلُ بما فعلَه اليهودُ والنصارى؛ فإنَّ اللهَ - جل وعلا - أمرَ بالتعوذِ منْ طريقِهم، لأنَّه طريقُ ضلالٍ وهلاكٍ، ولا يجوزُ التشبهُ بهمْ في أعمالِهم المخالفةِ لشرعِنا، وهم معرفون بالضلالِ واتباعِ الهوى والتحريفِ لِمَا جاءَ به أنبياؤُهم، فلهذا ولغيرِه مِنْ أعمالِهم الضالةِ نُهِينَا عنْ التشبهِ بهم وسلوكِ طريقِهم، بحاصلِ أنَّ المفاسدَ التي ستنشأُ عنْ الاعتناءِ بالآثارِ وإحيائِها محققةٌ، ولا يحصي كميتَها وأنواعَها وغاياتِها إلَّا الله سبحانه، فوجبَ منعُ إحيائِها وَسَدُّ الذرائع إلى ذلكَ.
ومعلومٌ أنَّ أصحابَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - همْ أعلمُ الناسِ بدينِ اللهِ، وأحبُّ الناسِ لرسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وأكملُهم نصحًا للهِ ولعبادِه، ولمْ يحيوا هذه الآثارَ ولم يُعَظِّمُوها ولم يدعوا إلى إحيائِها، بلْ لمَّا رأى عمرُ - رضيَ اللهُ عنه - بعضَ الناسِ يذهبُ إلى الشجرةِ التي بويعَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - تحتَها أمرَ بقطعِها؛ خوفًا على الناسِ مِنَ الغلوِّ فيها والشركِ بها، فشكرَ له المسلمون ذلكَ، وعدوه مِنْ مناقبِه - رضيَ اللهُ عنه -.
ولوْ كانَ إحياؤُها أوْ زيارتُها أمرًا مشروعًا لفعلَه النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - في مكةَ وبعَد الهجرةِ، أو أمرَ بذلكَ أو فعلَه أصحابُه أوْ أرشدوا إليه، وسبقَ أنَّه أَعْلَمُ الناسِ بشريعةِ اللهِ وَأحبُّهم له - سبحانه وتعالى -، وأنصحُهم للهِ ولعبادِه، ولم يُحفظْ عنه - صلى اللهُ عليه وسلم - ولا عنهم أنهمْ زاروا غارَ حراء حينَ كانوا بمكةَ أو غارَ ثور.
ولم يفعلوا ذلكَ أيضًا حينَ عمرةِ القضاءِ، ولا عامَ الفتحِ ولا في حجةِ الوداعِ، ولم يعرجوا على موضعِ خَيْمَتَي أُمِّ معبد ولا محلِّ شجرةِ البيعةِ، فعُلِمَ أنَّ زيارتَها وتمهيدَ الطرقِ إليها أمرٌ مبتدعٌ لا أصلَ له في شرعِ اللهِ، وهوَ مِنْ أعظمِ الوسائلَ إلى الشركِ الأكبرِ.
ولمَّا كانَ البناءُ على القبورِ واتخاذُ مساجدَ عليها مِنْ أعظمِ وسائلَ الشركِ؛ نهى النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - عنْ ذلكَ، ولعنَ اليهودَ والنصارى على اتخاذِهم قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، وأخبرَ عمَّنْ يفعلُ ذلكَ أنهم شرارُ الخلقِ، وقالَ فيما ثبتَ عنه في صحيحِ مسلم - رحمهُ اللهُ -، عنْ جندب بن عبد اللهِ البجلي - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((ألَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كانوا يَتخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيائِهم وَصَالِحِيهم مَسَاجِد أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِد، فإنِّي أنهاكُمْ عَنْ ذَلِك)).
وفي صحيحِ مسلم أيضًا عنْ جابر بنِ عبدِ اللهِ - رضيَ اللهُ عنهم - قالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَليه، وَأَنْ يُبْنَى عليه)، زادَ الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ: (وَأَنْ يُكْتَبَ عليه)، والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرةٌ.
وقدْ دَلَّتْ الشرعيةُ الإسلاميةُ الكاملةُ على وجوبِ سَدِّ الذرائعَ القوليةِ والفعليةِ، واحتجَّ العلماءُ على ذلكَ بأدلةٍ لا تُحصى كثرةً، وذكرَ منها العلامةُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ - في كتابِه "إعلام الموقعين" تسعةً وتسعين دليلًا، كُلَّها تدلُّ على وجوبِ سَدِّ الذرائع المُفْضيةِ إلى الشركِ والمعاصي.
وذكرَ منها قولَ اللهِ تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
وقولَه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ، ولَا صَلَاةَ بَعْدَ العصرِ حتَّى تغربَ الشمسُ)) سَدًّا لذريعةِ عبادةِ الشمسِ مِنْ دونِ اللهِ، ومنعًا للتشبهِ بمنْ فَعَلَ ذلكَ.
كمَا ذكرَ منها أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - نهى عنْ بناءِ المساجدَ على القبورِ، ولعنَ مَنْ فعلَ ذلكَ، ونهى عنْ تجصيصِ القبورِ وتشريفِها واتخاذِها مساجدَ، وعنْ الصلاةِ إليها وعندَها، وعنْ إيقادِ المصابيح عليها، وأمرَ بتسويتِها، ونهى عنْ اتخاذِها عيدًا وعنْ شَدِّ الرحالِ إليها؛ لئلَّا يكونَ ذلكَ ذريعةً إلى اتخاذِها أوثانًا والإشراكِ بها، وحرَّمَ ذلكَ على مَنْ قصدَه وَمَنْ لمْ يَقْصُدْه بَلْ قَصَدَ خلافَه سَدًّا للذريعةِ.
فالواجبُ على علماءِ المسلمين وعلى ولاةِ أمرِهم أنْ يسلكوا مسلكَ نبيِّ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - وأصحابِه - رضيَ اللهُ عنهم - في هذا البابِ وغيرِه، وأنْ ينهوا عمَّا نهى عنه رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، وأنْ يسدوا الذرائعَ والوسائلَ المفضيةَ إلى الشركِ والمعاصي والغلوِّ في الأنبياءِ والأولياءِ، حمايةً لجنابِ التوحيدِ وسدًّا لطرقِ الشركِ ووسائله)([5]).
هذا جوابُ الإمامِ ابنِ باز - رحمهُ اللهُ -، وهو جوابٌ سديدٌ لا يحتاجُ مني لمزيدٍ، لا أقولُها تعصبًا للشيخِ ولكنْ للحقِّ بإذنِ اللهِ تعالى، وهوَ لمْ يأتِ بجديدٍ، إنما سارَ على نهجِ السلفِ الصالحين المتمسكين بالكتابِ والسنةِ، وأقولُ لهؤلاء الداعين لتهيئةِ هذه الأمكنةِ للزيارات: اتقوا اللهَ في الأمةِ، لا تفتحوا عليها بابًا للفتنةِ، وكُلُّ خيرٍ في اتباعِ مَنْ سَلَفَ، وكُلُّ شَرٍّ في اتباعِ مَنْ خَلَفَ.
أمَّا مسألةُ العائدِ الاقتصادي؛ فيجبُ علينا أنْ نؤمنَ بأنَّ اللهَ هو الرازقُ وحدَه، كمَا قالَ تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ أيضًا: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
فَطَلَبُ الرزقِ مشروعٌ بالأسبابِ والوسائلَ المشروعةِ، وبهذا يتحققُ الأمنُ والبركةُ والعيشُ الرغيدُ، أمَّا أنْ يكونَ الهدفُ هو المادةَ مِنْ أي سبيلٍ ولو كانَ غيرَ مشروعٍ؛ فحينئذٍ تُمْحَقُ البركةُ ويزولُ الأمنُ الذي وَعَدَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - بتمامِه للموحدين المؤمنين؛ قالَ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
فالأمنُ والاهتداءُ للموحدين الذين سَلِمُوا مِنَ الشركِ، فإنَّ المجتمعاتِ الإسلاميةِ إذا آمنتْ أَمِنَتْ، وإذا أَمِنَتْ استَقَرَّتْ وأنتجتْ وَتَمَكَّنَتْ؛ قَالَ - سبحانه وتعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وقالَ جلَّ جلاله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
لقدْ جعلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - الكعبةَ البيتَ الحرامَ مثابةً للناسِ وأمنًا، حتى لقدْ امتنَّ بِهِ على المشركين أنفسِهم، إذْ كانَ بيتُ اللهِ بينهم مثابةً لهم وأمنًا، والنَّاسُ مِنْ حولِهم يتخطفون وهمْ فيه وبِهِ آمنون، ثمَّ هُمْ بعدَ ذلكَ لا يشكرون اللهَ، ولا يُفْرِدُونَه بالعبادةِ في بيتِ التوحيدِ.
إنها النظرةُ السطحيةُ الخاطئةُ، والتصورُ الأرضي المحدودُ، هو الذي أوحى لقريش، وهوَ الذي يوحي لضعفاءِ الإيمانِ أنَّ اتباعَ هُدى اللهِ يُعَرِّضُهم للمخافةِ، ويُفْقِدُهم العونَ والنصيرَ، ويعودُ عليهم بالفقرِ والبوارِ، وما حَدَثَ قط في تاريخِ البشريةِ أَنْ استقامتْ أمةٌ على هُدى اللهِ إلا مَنَحَهَا اللهُ القوةَ والعزةَ والسيادةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.