الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ استندَ منْ يُجَوِّزُ تعظيمَ هذه الأماكنَ بشبهاتٍ عديدةٍ، وللرافضةِ النصيبُ الأوفرُ وَالتلبيسُ الأكبرُ في هذا التقديسِ المبتدعِ([1])، ولم أوردْ شبهاتِهم لاختلافِ منهجِهم في التعاملِ مع السنةِ النبويةِ، ولكني أوردتُ بعضَ الشبهاتِ التي تأثَّرَ بها بعضُ المعاصرين، والتي ذكرَها بعضُ العلماءِ السابقين، معْ ملاحظةِ البونِ الشاسعِ والفرقِ الواسعِ بينَ مرادِ هؤلاءِ العلماءِ وبينَ ما يفعلُه الروافضُ، وسأذكرُ أبرزَ هذه الشبهاتِ مع الردِّ عليها بإذنِ اللهِ تعالى([2]):
الشبهةُ الثالثةُ:
أنَّ الأممَ الأخرى اعتنتْ بآثارِ عظمائِها بدافعِ التقديرِ والإعجابِ لا العبادةِ، وأمةُ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - أولى منهم بذلكَ.
وممَّنْ قَرَّرَ ذلكَ عددٌ مِنَ الكُتَّابِ في الصحفِ السعودية، حيثُ دعوا إلى تعظيمِ هذه الآثارِ الإسلاميةِ، والعنايةِ بها خشيةَ أنْ تندثرَ ويجهلَها الناسُ؛ حيثُ يقولُ أحدُهم:
(والذين يزورون الآنَ بيتَ "شكسبير" في بريطانيا، ومسكنَ "بتهوفن" في ألمانيا، لا يزورونها بدافعِ التعبدِ والتأليهِ، ولكنْ بروحِ التقديرِ والإعجابِ لِمَا قَدَّمَهُ الشاعرُ الإنجليزي والموسيقار الألماني لبلادِهما وقومِهما مما يستحقُّ التقديرَ، فأينَ هذه البيوتُ التافهةُ مِنْ بيتِ محمدٍ، ودارِ الأرقمِ بن أبي الأرقم، وغارِ ثور وغارِ حراء، وموقعِ بيعةِ الرضوان وصُلْحِ الحديبية؟!).
إلى أنْ قالَ: (ومنذُ سنواتٍ قليلةٍ عمدَتْ مصرُ إلى تسجيلِ تاريخِ أبي الهول ومجدِ الفراعنة، وراحتْ تُرْسِلُها أصواتًا تتحدثُ وتصوِّرُ مفاخرَ الآباءِ والأجدادِ، وجاءَ السوَّاحُ مِنْ كُلِّ مكانٍ يستمعون إلى ذلكَ الكلامِ الفارغِ إذا مَا قيسَتْ بمجدِ الإسلامِ وتاريخِ الإسلامِ ورجالِ الإسلامِ في مُخْتَلفِ المجالاتِ).
ثُمَّ يقترحُ الكاتبُ أنْ تقومَ وزارةُ الحجِّ والأوقافِ بالتعاونِ مع وزارةِ المعارفِ على صيانةِ هذه الآثارِ والاستفادةِ منها بعدةِ وسائلَ؛ منها:
(إصلاحُ الطرقِ إلى هذه الآثارِ، وخاصةً منها الجلية؛ كغارِ ثور وغارِ حراء، وتسهيلُ الصعودِ إليها بمصاعدَ كهربائيةٍ كالتي يُصْعَدُ بها إلى جبالِ الأرز في لبنان مثلًا مقابل أجرٍ معقول)([3]).
الردُّ عليها:
أنَّ النصوصَ الشرعيةَ في التحذيرِ مِنْ مشابهةِ الكفارِ مستفيضةٌ مشهورةٌ؛ منها قولُه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهوَ مِنْهُم))([4]).
قالَ الصنعاني: (والحديثُ دَالٌّ على أَنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بالفُسَّاقِ كانَ منهم، أو بالكفارْ أو بالمبتدعةْ في أي شيءٍ مما يختصون بِه، مِنْ ملبوسٍ أوْ مركوبٍ أو هيئةٍ)([5])، فكيفَ يُطالِبُ الكَاتِبُ المسلمين بمشابهةِ الكفارِ في تعظيمِ عظمائِهم وكبرائِهم.
وإنَّ مِنَ القواعد الشرعيةِ في بابِ التشبهِ بالكفارِ: (أَنَّ كُلَّ ما يفعلُه المشركون مِنَ العباداتِ ونحوِها مما يكونُ كفرًا أوْ معصيةً بالنيةِ، يُنْهَى المؤمنون عَنْ ظاهرِه، وإنْ لم يقصدوا قَصْدَ المشركين؛ سَدًّا للذريعةِ وحسمًا للمادةِ)([6]).
والحِكمةُ مِنْ ذلكَ: مَا تُورِثُهُ المشابهةُ في الظاهرِ مِنَ الميلِ لطريقةِ الكُفْرِ، واستحسانِ عملِهم، ومَا يستتبعُه ذلكَ مِنْ مفاسدَ عظيمةٍ([7]).
وقدْ أجابَ سماحةُ الشيخُ عبدُ العزيز بن باز - رحمهُ اللهُ - على هذه الشبهةِ بجوابٍ سديدٍ، أِنْقِلُ طرفًا منه لأهميتِه حيثُ قالَ:
(ولمَّا كانَ تعظيمُ الآثارِ الإسلاميةِ بالوسائلَ التي ذكَرَها الكاتبُ، يخالفُ الأدلةَ الشرعيةَ ومَا دَرَجَ عليه سلفُ الأمةِ وأئمتُها، مِنْ عهدِ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهم - إلى أنْ مَضَتْ القرونُ المفضلةُ، ويترتبُ عليه مشابهةُ الكفارِ في تعظيمِ آثارِ عظمائِهم، وغلوُّ الجُهَّالِ في هذه الآثارِ، وإنفاقُ الأموالِ في غيرِ وَجْهِهَا ظَنَّا مِنَ المُنْفِقِ أنَّ زيارةَ هذه الآثارِ مِنَ الأمورِ الشرعيةِ، وهيَ في الحقيقةِ مِنَ البدعِ المحدثةِ، وَمِنْ وسائلَ الشركِ، ومِنْ مشابهةِ اليهودِ وَالنصارى في تعظيمِ آثارِ أنبيائِهم وصالحيهم واتخاذِها معابدَ ومزاراتٍ.
رأيتُ أنْ أُعَلِّقَ على هذا المقالِ بما يوضِّحُ الحَقَّ ويكشفُ اللَّبْسَ، بالأدلةِ الشرعيةِ والآثارِ السلفيةِ، وأنْ أُفَصِّلَ القولَ فيما يحتاجُ إلى تفصيلٍ؛ لأنَّ التفصيلَ في مقامِ الأشتباهِ مِنْ أهمِّ المهمات، وَمِنْ خيرِ الوسائل لإيضاحِ الحقِّ، عملًا بقولِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((الدينُ النصيحةُ، قيلَ: لِمَنْ يَا رسولَ اللهِ؟ قالَ: للهِ وَلكتابِه وَلرسولِه ولأئمةِ المسلمين وعامَِّتهم)).
فأقولُ واللهُ المستعان ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بِهِ:
قدْ ثَبُتَ عَنْ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - أنَّه قالَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهو رَدٌّ)) أخرجَهُ الشيخان، وفي لفظِ مسلم: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليه أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ))، وفي صحيحِ مسلم عنْ جابر - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((كانَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - يقولُ في خطبتِه يومَ الجمعةِ: أَمَّا بَعْد، فَإِنَّ خَيْرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتها وَكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ))، والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرةٌ.
وهذه الآثارُ التي ذكرَها الكاتبُ؛ كغارِ حراء وغارِ ثور وبيتِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - ودارِ الأرقمِ بن أبي الأرقم ومحلِّ بيعةِ الرضوان وأشباهِها، إذا عُظِّمَتْ وَعُبِّدَتْ طُرُقُهَا، وَعُمِلَتْ لها المصاعدُ واللوحاتُ، لا تُزَارُ كما تُزَارُ آثارُ الفراعنة، وآثارُ عظماءِ الكفرةِ، وإنما تُزَارُ للتعبدِ والتقربِ إلى اللهِ بذلكَ، وبذلكَ نكونُ بهذه الإجراءاتِ قَدْ أحدَثْنَا في الدينِ مَا ليسَ منه، وشرعنا للناسِ ما لمْ يأذنْ بِهِ اللهُ.
وهذا هوَ نفسُ المنكرِ الذي حَذَّرَ اللهُ - عزَّ وجل - منه في قولِه سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وحَذَّرَ منه النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بقولِه: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))، وبقولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه، قَالوا: يا رسولَ اللهِ اليهود والنصارى؟ قَالَ: فَمَنْ!)) متفقٌ على صحتِهِ.
ولوْ كانَ تعظيمُ الآثارِ بالوسائلَ التي ذكرَها الكاتبُ وأشباهَها مما يحبُّهُ اللهُ وَرسولُهُ لَأَمَرَ بِه - صلى اللهُ عليه وسلم - أوْ فَعَلَهُ، أوْ فَعَلَهُ أصحابُهُ الكرامُ - رضيَ اللهُ عنهم -، فَلَمَّا لمْ يَقَعْ شيءٌ مِنْ ذلكَ عُلِمَ أنَّه ليسَ مِنَ الدينِ، بَلْ هوَ مِن المحدثاتِ التي حَذَّرَ منها النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، وحَذَّرَ منها أصحابُهُ - رضيَ اللهُ عنهم -)([8]).
وحَقًّا ما قالَهُ الإمامُ عبدُ العزيزِ بن باز، فهوَ يُقَرِّرُ ما تقتضيه النصوصُ الشرعيةُ وِفْقَ منهجِ السلفِ الصالحِ، ويؤكدُ أنَّ هذا الآثارَ لا تُزَارُ كَمَا تُزَارُ آثارُ الفراعنة وآثارُ عظماءِ الكفرةِ، وإنما تُزَارُ للتعبدِ والتقربِ إلى اللهِ تعالى بذلكَ.
وَمِنْ هنا صارتْ هذه الزياراتُ لهذه الآثارِ بِقَصْدِ التقربِ إلى اللهِ بدعةً، والبدعةُ إنما تقعُ بنيةِ القربةِ، ولهذا نَصَّ الشاطبي على هذا المعنى في البدعةِ، حيثُ قالَ: (ولا معنى للبدعةِ إلَّا أَنْ يكونَ الفعلُ في اعتقادِ المُبْتَدِعِ مشروعًا وليسَ بمشروعٍ)([9]).
فَكُلُّ مَا فُعِلَ أوْ تُرِكَ بِقَصْدِ القربةِ مما ليسَ له أصلٌ فِي الشرعِ فهو بدعةٌ)([10])، وهذا الشرطُ -الذي هو قصد القربة - هو ما عناه الشاطبي في تعريفِه للبدعةِ بقولِه: (طريقةٌ في الدينِ تضاهي الشرعيةَ ...)([11]).
ثُمَّ شَرَحَ ذلكَ بقولِه: (يعني أنها تشابِهُ الطريقةَ الشرعيةَ، مِنْ غيرِ أَنْ تكونَ في الحقيقةِ كذلك، بَلْ هي مضادةٌ لها مِنْ أوجهٍ متعددةٍ ...)، إلى أنْ قَالَ: (فَلَوْ كَانَتْ لا تضاهي الأمورَ المشروعةَ لَمْ تَكُنْ بدعةً لأنها تصيرُ مِنْ بابِ الأفعالِ العاديةِ ...)([12]).
إِنَّ كثيرًا مِنْ مُحَسِّنِي البدعِ يعملونَها بنيةِ التقربِ إلى اللهِ تعالى، وهؤلاء الذين يقصدون هذه الأماكنَ إنما يقصدونَها وهم يريدونَ التقربَ إلى اللهِ تعالى، وَكُلُّ مَا فُعِلَ بِقَصْدِ القُرْبَةِ مما يَدُلُّ عليه النصوصُ الشرعيةُ فهوَ بدعةٌ.
([1]) تتابع الرافضةُ على التصنيف في تقديس المزارات والمشاهد، ففي كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي بكتاب "المزار" استغرق ثلاثة مجلدات، وفي "وسائل الشيعة" للحر العاملي أبواب المزار بلغت ست ومائة باب، وفي "الوافي" للكاشاني أبواب المزارات والمشاهد عَدَّدَ ثلاث وثلاثون بابًا، أما الكتب المستقلة فمنها "كتاب المزار" لمحمد بن علي الفضل، وكتاب "المزار" لمحمد بن المتهدي، وكتاب "المزار" لمحمد بن همام، وغيرهم.
انظر: أصول مذهب الشيعة، د.ناصر القفاري، (2/476-477)، ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، له، (1/300-301)، والشيعة والتصحيح: الصراع بين الشيعة والتشيع، د.الموسوي، ص(91).
([2]) أفدت في الرد على الشبهتين الأولى والثانية من التبرك وأنواعه وأحكامه، (349-350)، والتبرك المشروع والتبرك الممنوع، العلياني، ص(68-70)، وحكم زيارة أماكن السيرة النبوية، ص(21).
([3]) جريدة الندوة بتاريخ (24/5/1387هــ)، من مقال للأستاذ: صالح محمد جمال، ولا تزال كتاباتهم تتكرر منذ ذلك التاريخ، وانظر نموذجًا في جريدة المدينة تاريخ (3/12/1425هــ)، واستشهد الكاتبُ بمغارةٍ في فرنسا ظهرت فيها مريم العذراء، وأصبحتْ مقصدًا لأكثر من مليون حاج كاثوليكي سنويًّا.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.