وجوبها على الفور:
أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى عباده بالتوبة؛ فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، فهذا أمرٌ من اللهِ عز وجل لعباده جميعًا بالتوبة إليه، والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب([1]).
ومن هنا أخذ العلماُء الحكمَ بوجوبِ التوبة، يقول القرطبي في بيان ذلك: ({وَتُوبُوا}: أمر، ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة وأنها فرضٌ متعين)([2]).
وقد حَضَّ المولى سبحانه وتعالى عباده على الإسراع في التوبة والإنابة إليه؛ فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وما من شك أن المسارعة تقتضي الفورية في التوبة والإنابة إلى الله تعالى([3]).
وقد نقل الإمامُ النووي اتفاقَ أهلِ العلم على وجوب التوبة على الفور؛ حيث قال: (واتفقوا على أن التوبةَ من جميعِ المعاصي واجبةٌ، وأنها واجبة على الفورِ، لا يجوزُ تأخيرها، سواء كانت المعصيةُ صغيرةً أو كبيرةً)([4]).
وقد بيَّن غيرُ واحدٍ من أهل العلم أن من أَخَّرَ التوبةَ زمانًا عصى بتأخيرِها، فيجب عليه التوبة من تأخيرِ التوبة؛ يقول القرافي في بيان ذلك: (وإذا كانت التوبةُ واجبةً على الفورِ، فمن أَخَرَها زمانًا عصى بتأخيرِها، فيتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة، فيحتاج إلى توبةٍ من تأخيرِ التوبة، وكذلك تأخير كل ما يجب تقديمه من الطاعات)([5]).
ويقول ابن القيم: (المبادرةُ إلى التوبةِ من الذنبِ فرضٌ على الفورِ، ولا يجوزُ تأخيرها، فمتى أَخَّرَهَا عصى بالتأخير، فإذا تابَ من الذنبِ بقى عليه توبة أخرى، وهي توبة من تأخيرِ التوبة، وقَلَّ أن تخطر هذه ببالِ التائبِ ... ولا ينجي من هذه إلا توبةٌ عامةٌ مما يعلمُ من ذنوبِه ومما لا يعلمُ)([6]).
وإلى هذا ذهب ابنُ حجر الهيتمي، ونقل ذلك عن الباقلاني([7])، وذهب إليه البهوتي في "كشاف القناع"([8])، وإلى هذا ذهب ابنُ مفلح أيضًا([9])، والسفاريني([10])، والشنقيطي([11])، وغيرهم([12]).
ولابد من التنبيه هنا إلى أن التوبة الصادقة تكون عن اقترافِ الذنب وعن تأخيرِ التوبة منه، فيندم العبدُ على اقتراف ذنبِه وعن تأخيرِه للتوبة، فيتمنى أن لو تاب من أول الوقت فورَ اقترافِه للمعصية، بل إنه يتمنى أن لا يكون قد اقترفَ المعصيةَ أصلًا؛ فتوبتُه هذه إذًا تشمل التوبتين: التوبة من المعصية، ومن تأخير التوبة منها.
أما من كانت توبته فيها ضعف وقصور، لم ترتقِ إلى الندمِ على المعصيةِ وتمني عدم اقترافِها، والندم على عدم التوبةِ منها فورًا؛ فهذا يبقى عليه توبة أخرى من تأخيرِ التوبة، وينجي منها كما قال غيرُ واحدٍ من العلماء: (أن يتوبَ من ذنوبِه توبةً عامةً، فيدخل في هذه التوبةِ جميعَ الذنوبِ التي يعلمُها العبدُ والتي لا يعلمُها)([13]).
ويشهد لهذا دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قَدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدمُ وأنت المؤخرُ، لا إله إلا أنت))([14]).
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما أنت أعلمُ به مني))، يشهد لفضلِ التوبة العامة، حيث إن هناك ذنوبًا تتطلب التوبةَ والاستغفار، قد لا يعلمُها العبدُ أو يَغْفُلُ عنها، والخلاص منها بهذه التوبة العامة، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء تعليمٌ لأمته وإرشادٌ لهم إلى امتثال ذلك، فهو الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم.
الهوامش:
([5]) الذخيرة، القرافي، (13/356-357)، وانظر: العين والأثر في عقائد أهل الأثر، عبد الباقي المواهبي، ص(42).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.