الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: يقول ولي الله الدهلوي([1]): والفناء إما شفاهي، وإما حجابي، أما الشفاهي فانصباغٌ بحقيقة الذات، لا تجلياته، انصباغاً قوياً تاماً، ويختص برجل شديد، فصوْرة مزاجه لا تنقهر إلا بتكرار التجليات، قوي جذبه لا يغادرحالاً ولا شيئاً إلا غلبه وقهره، ولا يدعه حتى يبلغ الدرجة القصوى.
...وذلك لأنه ربما لم يتحقق الفناء الشفاهي، وحينئذ تظهر النفس في صورة الربوبية، فيعسر زواله، ويعقب خلافه خزياً شديداً في الحياة الدنيا([2]).اهـ.
- قوله: فصورة مزاجه، أي: فصورة مزاج الفناء...
- وقوله: ...فيعسر زواله، أي: يعسر زوال ظهور صورة الربوبية، فيبقى الولي يقول عن نفسه: أنا الحق....
- وقوله: ويعقب خلافه خزياً شديداً...، نعلم ما هو هذا الخزي؟ إنه التكفير...والقتل.
ويقول: وأما الخاص، فكل فناء في حضرة الذات، كان مع الصورة المزاجية...وأصل مذهبهم أن يتجشموا عملاً نيرنجياً، وذلك العمل أن يتلطفوا من أنفسهم، فينقدح لهم سر عظيم الشأن، على درجاته.
فأول ما ينقدح استناد الأفعال إلى الله سبحانه، فهناك يتوكل على الله ولا يخاف إلا إياه، وهذا ظَهْرُ السر في الدرجة الأولى، وأما بطنها، فأن يُرى اللهُ سبحانه في عين كل فعل على أن الفعل من أستاره وتقيداته. ووجه أوليتها أن الأفعال على شرف العدم في نفس الأمر، وإنما الموطن العلمي من تمثلات هذا الموطن، وهذه هي (المحاضرة) عندهم.
وثانياً: ينقدح لهم استناد الصفات بأجمعها إليه، فيرى أن كل بصره فهو من بصره، وكل سمع فهو من سمعه، إلى غير ذلك؟ ولعلك حرور باقتناص بطنها ووجه ثانويتها، فهذه هي المكاشفة.
وثالثاً: ينقدح استناد الذوات، فيرى أن كل ذات فهو من ذاته، فإذا انتقل إلى بطنها، وهو أن الواجبَ جَلَّ مَجْدُه سَنْخٌ كلِّ موجود، وأن كلَّ موجودٍ مُفاضٌ منه إفاضةً مقدسة، ثم السير إلى الله، وهذه هي (المشاهَدة)، ثم إن جذبات الله تعالى تجاذبه حيناً فحيناً حتى ترتفع الحجب والتقيدات ولا يبقى إلا ذو الجلال والإكرام في وحدته وكبريائه، ويكون المدرَك عين المدرِك، فلا يعلم بالعلم الحضوري إلا الله سبحانه([3])...اهـ.
- مر هذا النص في معناه أكثر من مرة في الصفحات السابقة، ملخصه أن السالك في سيره إلى المعرفة، أي إلى معرفة وحدة الوجود، يمر في ثلاث مراحل:
أولاً: معرفة وحدة الأفعال، حيث يشاهد الواصل ذوقاً واستشعاراً أن كل الحركات التي تجري في الكون هي حركات الواحد وأفعاله، وهذه هي المحاضرة.
ثانياً: معرفة وحدة الصفات حيث يشاهد الواصل أن الصفات جميعها التي يراها المحجوبون صفات لمخلوقات، مثل: سميع، بصير، طويل، عريض، أحمر، أخضر، شجاع، جبان.. هي صفات للواجب جل مجده (حسب تعبير الدهلوي) تظهر فى تعيناته التي يظنها المحجوبون غيره، وهذه هي المكاشفة.
ثالثاً: وحدة الذات، أو وحدة الوجود، وهذه هي المشاهدة، وفي واقع الأمر إن الأصل هو وحدة الوجود، وما وحدة الأفعال ووحدة الصفات إلا نتائج لها.
ويجب أن نعرف أن هذا الترتيب قد يحصل لواصل وقد لا يحصل، وهو تابع، إلى حد ما، لتوجيهات الشيخ وإيحاءاته.
ويقول ولي الله الدهلوي أيضاً:
ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سَنْخ القدوسية على سبيل الظهور والتمثل، فإنه لكل متدنس قدوسية هي أقرب من حبك وريده، وهو أبعد منها بما هو هو كبعد المشرقين([4])...اهـ.
- هذه المقولة هي مثل مقولة ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد. ومثل مقولة الششتري: وفي الخنازير مع القرود. ومقولة ابن عجيبة: متلازمان في المقام متضادان في الأحكام.
ومثل قول قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا. وغيرها من الأقوال المماثلة التي مرت والتي ستمر.
ويقول أيضاً مقرراً:
قال الشيخ صدر الدين القونوي([5]): الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده، لم يصدر عنه إلا الواحد، لاستحالة إظهار الواحد وإيجاده- من حيث كونه واحداً- غير الواحد، وذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان المكونات ما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول أيضاً، وبين سائر الموجودات، ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة، فإنه ليس ثمة عند المحققين إلا الحق، والعالم ليس بشيء زائد على معلومه لله تعالى أولاً، المتصفة بالوجود ثانياً([6])...اهـ.
* الملحوظات:
نلاحظ في هذا النص ما يلي:
1- وضوح عقيدة وحدة الوجود.
2- إيمان قطبين كبيرين بها: القونوي صاحب النص، والدهلوي الذي أورده مقراً بما فيه.
3- العقيدة الإسماعيلية التي هي أصلاً من اليونانيات: الصدور والفيض والعقل الأول...
4- محاولتهم التوفيق بين الإسلام واليونانيات عندما جعلوا العقل الأول (وهو من اليونانيات) هو القلم الوارد في الحديث الشريف.
5- يخالفون أصحاب اليونانيات (أهل النظر من الفلاسفة) الذين يقولون: إن العقل الأول انفصل عن الحق سبحانه وصار كأنه غيره رغم أنه صدر عنه بالفيض، بينما يقرر المحققون (أي: الصوفية) أنه ليس ثمة إلا الحق، حيث لا وصل ولا فصل ولا غيره. وللعلم: القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول، هو محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
ويقول الدهلوي أيضاً مقرراً:
قال مولانا عبد الرحمن الجامي([7])- بعدما فضل القول في تسويغ كون الوجود العام المنبسط على هياكل الموجودات عين الواجب جّل مجده بهذه الألفاظ-: الصوفيون القائلون بوحدة الوجود، لما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق، لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحده ونفي الشريك عنه (أي: الشريك في الوجود)، فإنه لا يمكن أن يتوهم فيه اثنينية وتعدد من غير أن يُعتبر فيه تعين وتقيد([8])...اهـ.
- في هذا النص يظهر إيمان الجامي والدهلوي بوحدة الوجود، وكلاهما من الأقطاب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرؤوف القاسم).
الهوامش
([1]) أبو الفياض ولي الله أحمد بن أبي الفيض عبد الرحيم الدهلوي (نسبة إلى دهلي) شيخ محدثي الهند في القرون الأخيرة، توفي سنة (1176هـ).
([2]) الخير الكثير، (ص:106).
([3]) الخير الكثير، (ص:104، 105).
([4]) الخير الكثير، (ص:21).
([5]) صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي تلميذ ابن عربي وابن زوجته، له مكاتبات مع نصير الدين الطوسي وزير هولاكو، مات في قونية سنة (673هـ-1275م).
([6]) الخير الكثير، (ص:37).
([7]) نور الدين، عبد الرحمن بن أحمد الجامي، ولد في جام من بلاد ما وراء النهر، وتوفي في هراة سنة (898هـ-1492م).
([8]) الخير الكثير، (ص:38).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.