إن من الأمور المسلَّم بها أن القلب لا يخلو من متعلَّقٍ يتعلقُ به، ومحبوبات يحبها، وما أجمل تعلقه بخالقه ورازقه، والاتصال بالخالق سبحانه لا بد له من مجاهدة ومرابطة، وإذا ما تعلق العبد بأمرٍ من أمور الدنيا فإن القلب يقل تعلقه بالخالق سبحانه، قال ابن القيم -رحمه الله- عن أمر الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- أن يذبح ابنه: "إن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بِكْر الأولاد أحبّ إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شُعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلاً، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبقَ في الذبح مصلحة؛ إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر وفُدي الذبيح وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب".[1]
وعليه فإن محبة الله من أعظم مقامات العبادة عليها تدور رحى الطاعة والسير إلى الله؛ لأنها تسوق المؤمن إلى القرب، وترغبه في الإقبال على الله، وتجشم المشقة والعناء في سبيل رضا الله والفوز بجنته. ولذا كان من أعظم وأرفع منازل السائرين إلى رب العالمين، أن يحب العبد ربه والأعظم أن يحبه الله جل وعلا، ومصداق ذلك ما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".[2]
وفي صحيح البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ). [3]، فمحبة الله يذوق بها العبد حلاوة الإيمان.
ومحبة الله هي إيثار محبة الله على ما سواه بالتزام أمره، واجتناب نهيه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل كبير وصغير، وسلوك طريق المحبين، والتحزب لأهل محبة الله، ونصرتهم ومودتهم، وصرف المحبة الإيمانية لكل محبوب لله، والبعد عن كل ما يُسخِط الله وينافي محبته، والمحبة أحد ركني العبادة، «وروحُ العبادةِ هو الإجلالُ والمحبةُ، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخرِ فسدَتْ، فإذا اقترنَ بهذين الثناءُ على المحبوبِ المعظَّمِ فذلك حقيقةُ الحمدِ»[4].
ومن استقرأ نصوص الشريعة علم أن للقلوب أعمالاً كما للجوارح أعمال، وربما بلغ المسلم أو المسلمة بأعمال قلبه ما لا يبلغه بأعمال جوارحه، فيقوم في قلبه من حُبّ الله وتعظيمه، وإجلاله ومهابته، وخشيته وخوفه ورجائه، والإنابة إليه؛ ما يكون أفضل من صلاته وصيامه وحجِّه. قال ابن القيم -رحمه الله-: "والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح".[5]
وبحسب عمل القلب يستقيم الجسد أو ينحرف، ويكسب أو يخسر، فالأعضاء جنود القلب، وهو ملك الأعضاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلُحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».[6]، وقد ورد ما يدل على أن للقلوب أعمالاً في كتاب الله -عز وجل- ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، قال الألوسي -رحمه الله-: "والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح".[7]
ويدل على صحة ذلك ما قاله العلماء في تفسير العمل الصالح: بأنه أصوبُه وأخلصُه، قال ابن القيم: "قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا: لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة".[8]
فإذا كان هذا هو المقصود بأحسن العمل، وهو أخلصُه وأصوبُه، فإن الإخلاص لا يكون إلا في القلب، وقد سماه الله عملاً، فدل ذلك على أن للقلوب أعمالاً، ومنه قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53].
قال ابن عاشور -رحمه الله-: "والمراد بالعمل في قولهم: (فنعمل) ما يشمل الاعتقاد وهو الأهم مثل اعتقاد الوحدانية والبعث وتصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الاعتقاد عمل القلب ولأنه تترتب عليه آثار عملية من أقوال وأفعال وامتثال".[9]
ومنه قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، و"معنى العمل غير الصالح: الكفر، وأطلق على الكفر (عمل)؛ لأنه عمل القلب، ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان".[10]
والمقصود بعمل القلب ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين وهو يتكلم عن التوكل وأنه من أعمال القلب قال: "التوكل عمل القلب ومعنى ذلك: أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات".[11]
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه على آله وسلم- أن رجلاً وجد غصن شوك على الطريق فأخّره، فشكر الله له فغفر له. [12] وقال –عليه الصلاة والسلام–: "غُفِرَ لامرأة مومسة مرّت بكلبٍ على رأس ركيّ يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك".[13]
وغفر لذلك الرجل ولتلك المرأة لأجل ما قام في قلوبهم من رحمة بالخلق، وإيصال الإحسان إلى الآخرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا أهمية عمل القلب في تحقيق المغفرة تعليقًا على هذين الحديثين: " فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كلّ بغيّ سقت كلبًا يغفر لها. وكذلك هذا الذي نحّى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك. فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحّى غصن شوك عن الطريق يغفر له. قال الله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37]. فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول، والتصدّق به، لكنه يناله تقوى القلوب. وفي الأثر: أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب".[14]
إن أصل الإسلام وأعظم واجباته والأصل في صلاح كل الأعمال هو محبة الله ورسوله، قال الإمام ابن تيمية: "محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين.
وكما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة"[15].
الهوامش:
[1] زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، (1/ 70)، مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلامية، بيروت، الكويت، الطبعة الرابعة عشر، 1407هـ - 1986م، تحقيق: شعيب الأرناءوط - عبد القادر الأرناءوط.
[2] اخرجه البخاري (5/2384)، رقم (6137)
[3] أخرجه البخاري (1/14)، رقم (16) ، ومسلم (1/66)، رقم (43).
[4] مدارج السالكين (2/495) ط. دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثانية ، 1393 – 1973م.
[5] الصلاة وحكم تاركها، ابن قيم الجوزية، ص71، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ - 1996م.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 28، برقم: 52، ومسلم في صحيحه 3/ 1219، برقم: 1599.
[7] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي أبو الفضل، 29/ 5، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[8] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية،2/ 89، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثانية، 1393هـ - 1973م، تحقيق: محمد حامد الفقي.
[9] التحرير والتنوير، ص1547.
[10] التحرير والتنوير، ص2114.
[11] مدارج السالكين، (2/ 114).
[12] أخرجه البخاري برقم (624)، ومسلم برقم (1914).
[13] أخرجه البخاري برقم (3321).
[14] منهاج السنة النبوية (6/ 222)، ط. مؤسسة قرطبة، 1406هـ.
[15]أمراض القلوب وشفاؤها لابن تيمية صـ 59.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.