قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]؛ أي: جعله صفوة له، وخصَّه بكراماته، قال ثعلب: (إنما سُمي الخليلُ خليلًا؛ لأن محبتَه تتخلل القلبَ، فلا تدع فيه خليلًا إلا ملأته)[1]، والخلة أعلى درجات المحبة، وهي ثابتة في القرآن والسنة لنبيين اثنين؛ هما إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام -.
(قيل: إنما سُميت خُلة لتخلل المحبةِ جميعَ أجزاءِ الروحِ، قال: قَدْ تَخَلَّلَت مَسْلَكَ الروحِ مِنِّي *** وبذا سُمِّيَ الخليلُ خَلِيلًا
والخُلةُ: الخليل يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويجمع على خِلَال، مثل قلة وقلال، والخل: الود والصديق، والخلال أيضًا مصدر بمعنى الخالة، ومنه قوله تعالى: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: 31]، وقال في الآية الأخرى: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة} [البقرة: 254]، قال امرؤ القيس: ولست بمقلي الخلال ولا قالي ... والخليل: الصديق، والأنثى خليلة، والخِلالة بكسر الخاء وفتحها وضمها: الصداقة والمودة، قال:
وكيف تواصلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلالتُه كأبي مرحبط)[2]
والفرق بين الخُلة والمحبة من ثلاثة وجوه:
1- أن الخلة أخص من مطلق المحبة، يدل على ذلك بيانه صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح من المخلوقين خليلًا، وقد استفاض ذلك عنه من غير وجه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كنتُ متَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن صاحبَكم خليلُ اللهِ))[3]، وفي رواية: ((إني أبرأُ منْ كُلِّ خليلٍ من خلتِه، ولو كنتُ متخذًا من أهلِ الأرضِ خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكر خليلًا))[4].
وقد أخبرَ صلى الله عليه وسلم أنه يحب أناس؛ كمعاذ بن جبل والأنصار، وكان زيد بن حارثة - رضي الله عنهما - حب رسول الله وابنه أسامة حبه، وقال له عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((من أحب الناسِ إليك؟ فقال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها))، فتحصل من هذا أن الخلة أعلى رتبة من المحبة.
2- أن الخلة لا تقبل المشاركة ولا المزاحمة، ففيها كمال التوحيد وكمال المحبة؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: (وهي رتبةٌ لا تقبلُ المشاركةَ، ولهذا اختص بها في العالمِ الخليلان؛ إبراهيم ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهما -، كما قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ اللهَ اتخذني خليلًا كما اتَّخَذَ إبراهيمَ خليلًا))، وفي الصحيح عنه: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا من أهلِ الأرضِ خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن صاحبَكم خليلُ الرحمنِ))، وفي الصحيح أيضًا: ((إني أبرأُ إلى كلِّ خليلٍ من خلتِه))[5].
قال ابن الجوزي: وقد ظنَّ بعضُ من لا علمَ عنده أن الحبيبَ أفضل من الخليلِ، وقال: محمدٌ حبيبُ اللهِ وإبراهيمُ خليلُ اللهِ، وهذا باطلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ؛ منها: إن الخلةَ خاصةٌ والمحبةَ عامةٌ، فإن اللهَ يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقال في عباده المؤمنين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
ومنها أن النبيَّ نفى أن يكونَ له من أهلِ الأرضِ خليلٌ، وأخبرَ أنَّ أحبَ النساءِ إليه عائشة ومن الرجال أبوها، ومنها أنه قال: ((إنَّ اللهَ اتخذني خليلًا كما اتَّخَذَ إبراهيمَ خليلًا))[6]، ومنها أنه قال: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا من أهلِ الأرضِ خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكنْ أخوة الإسلامِ ومودته))[7].
الإرادة: (صفةٌ تُوجِبُ للحيِّ حالًا يقعُ منه الفعل على وجهٍ دون وجه)[8]، وقيل: (هي اسمٌ لنزوعِ النفسِ إلى الشيءِ مع الحكمِ فيه بأنه ينبغى أن يُفعلَ أو لا يُفعلَ)[9]، فالمحبة أبلغ من الإرادة، فكلُّ محبةٍ إرادةٌ، وليس كل إرادة محبة، والذي دلَّ عليه الدليلُ أن المحبة مستقلة بذاتها عن الإرادة، ولكنها تابعة في الغالب لها.
وقد يجتمعا أو يفترقا في الفعل الظاهر، فمثال اجتماعهما: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين} [التوبة: 108]، حيث اجتمعت إرادة التطهر ومحبته في الفعل، ومثال افتراقهما: ما روت عائشةُ - رضي اللَّه عنها - أن فتاة دخلت عليها فقالت: ((إن أبي زوَّجَني ابنَ أخيه، ليرفعَ بي خسيستَه، وأنا كارهةٌ، قالت: اجلسي حتى يأتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجاءَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبَرَتْه، فأرسلَ إلى أبيها فدعاه، فجعلَ الأمرَ إليها، فقالت: يا رسول اللهِ، قد أَجَزْتُ ما صَنَعَ أبي، ولكن أَرَدْتُّ أنْ أَعْلَمَ أنَّ للنساءِ من الأمرِ شيء))([10])، فالكره ينفي محبة الفعل، والإجازة دليل الإرادة.
وصفة المحبة من الصفات الفعلية؛ قال الشيخ ابن عثيمين: (محبةُ اللهِ صفةٌ من صفاته الفعلية، ودليلُها قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}، والود خالصُ المحبة، ولا يجوزُ تفسيرُ المحبةِ بالثواب؛ لأنه مخالفٌ لظاهرِ اللفظِ وإجماعِ السلفِ، وليس عليه دليل)([11]).
([3]) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي r: ((سُدُّوا الأبوابَ إلا باب أبي بكر))، (3654)، ومسلم، باب من فضائل أبي بكر الصديق t، (2383).
([7]) رواه البخاري، (454)، بلفظ: ((ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلًا من أمتي لاتخذتُ أبا بكرٍ، ولكن أخوة الإسلامِ ومودته، لا يبقينَّ في المسجدِ بابٌ إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر))، وقد ذكر السيوطي فروقًا بين المحبة والخلة، مُقَدِمًا المحبةَ على الخلة ولم يجعلها رتبة من مراتبها، ووصف النبيَّ r وإبراهيم u مما لا طائل من ورائه، انظر: الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة، السيوطي، ص(140-141).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.