الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
معنى الفطرة في اللغة:
قال الخليل: (وفطر الله الخلق، أي خلقهم، وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السماوات والأرض، والفطرة التي طبعت عليها الخليقة من الدين، فطرهم الله على معرفته بربوبيته... وانفطر الثوب وتفطر أي انشق، وتفطرت الجبال والأرض انصدعت).
وقال الجوهري: (والفطرة بالكسر الخلقة)، و( الفطرة: الجبلة التي فطر الله تعالى عليا الخلق، وروى في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة").
(الجبلة بكسرتين وتثقيل اللام والطبيعة والخليقة والغريزة بمعنى واحد وجبله الله على كذا من باب قتل فطره عليه).
وبهذا يتبين أن معنى الفطرة في اللغة يدور معناه على الشق والابتداء والخلق والجبلة والطبيعة، وقد ورد ذكر أغلب هذه المعاني في القرآن قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]، والمقصود يتشققن وقال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] وقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، والمعنى هنا الابتداء والخلق والإيجاد على غير مثال سابق، وقال سبحانه: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]، إشارة إلى قبولها ما اقتضاه خلقه وابداعه لها.
ومن معان الفطرة أيضًا: السنة كما في الحديث: (خمس من الفطرة).
المراد بالفطرة في الاصطلاح الشرعي:
قال ابن سعدي رحمه الله في تعريف الفطرة: "هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: (قال العلماء الفطرة هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل، التي هي معدة، ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه ويؤمن به).
وقال أبو البقاء الكفوري: (الفطرة هي الصفة التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته).
أما ما جاء في السنة: (كل مولود يولد على الفطرة)، فالمراد به الإسلام.
ومن هنا يتبين أن الإقرار بوجود الخالق أمر فطري فطر الخلق عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الإقرار بالله والاعتراف به ثابت في الفطرة كما قرره سبحانه في كتابه في مواضع فلا يحتاج إلى دليل؛ بل هو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول)، كيف لا (ووجوده سبحانه وربوبيته وقدرته أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكره إلا مكابر بلسانه وقلبه وعقله وفطرته وكلها تكذبه).
وقد دل على ما تقدم الكتاب والسنة والعقل:
أولًا: دلالة الكتاب:
جاء التنبيه إلى هذه المعرفة في مواضع من كتاب الله جل وعلا والتي منها ما يلي:
- قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30، 31]
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته، وهي الدين، { حَنِيفًا} يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها، ونصبت (فطرة) على المصدر من معنى قوله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل).
وقد نقل الإمام ابن عبد البر إجماع أهل التفسير على أن المقصود بالفطرة: الإسلام، حيث يقول (أجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإسلام، وهو المعروف عند السلف.
وقوله: لا تبديل لخلق الله تحتمل معنيين:
أحدهما: لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها – فيكون خبرًا بمعنى الطلب.
الثاني: أنه خبر على بابه أي: ساوى الله بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك.
- ما جاء في جواب الرسل للكفار لما قالوا: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن قول الرسل { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} يحتمل أمرين:
الأول: أفي وجوده شك؟
الثاني: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟.
فيكون الرسل قد احتجوا على الكفار بحجتين:
الأولى: الفطرة، فإن قولهم { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} استفهام تقرير مفاده النفي، أي أن الله تعالى فوق الشك، وأن الشك فيه مما تنكره الفطر، وهذه الحجة داخلية نابعة من نفس الإنسان، فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، والاعتراف به ضروري في الفطر السليمة.
والثانية: العقل، وذلك في قولهم { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فإن هذا الاستدلال بالخلق على الخالق، وهذه الحجة خارجية، مأخوذة من دلالة الأثر على المؤثر، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما، فلابد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه.
ثانيًا: دلالة السنة:
دلت السنة النبوية على ما دل عليه القرآن فمن ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
ثالثًا: دلالة العقل:
- ترجيح النافع على الضار: إن الإنسان يجد في نفسه أنه مدفوع في فطرته إلى ترجيح النافع على الضار، والصحيح على السقيم، لاسيما أنه يحصل له كثير من المعتقدات والإرادات والدوافع التي منها الحق والباطل، ومن هنا كانت كل نفس مفطورة على الاعتراف بالخالق والإقرار به استجابة لما هي مركوزة عليه من طلب كل ما هو حق ونافع والاعتراف به.
- زيادة العلم توجب الإقرار به: إننا نجد أن الإنسان كلما ازداد علمًا وإرادة وأخلاقًا وتفكرًا كلما ازداد معرفة بخالقه ومحبة له، وهذا دليل على أن النفوس مفطورة على الاعتراف به، وعلى هذا فإما أن يكون الإقرار بالخالق والإيمان والاعتراف به وبربوبيته أكمل للناس علمًا وقصدًا، أو ضدها أكمل للناس، والثاني باطل قطعًان فلابد أن تكون الفطرة مقتضية للإيمان بربوبيته وسائر خصائصه سبحانه.
- شعور النفس وإرادتها: أن النفس إذا كانت لا تخلو من الشعور والإرادة فإن من الممتنع أن تكون غير شاعرة بوجوده وعدمه، أو محبته وعدمها، إذ لازم ذلك كون ذلك ليس من لوازم وجودها، وهذا باطل فلابد وأن تكون شاعرة به عالمة بربوبيته ضرورة، إذ أن ذلك من لوازم وجودها، إذ لا يعقل أثر بغير مؤثر، وموجود بغير موجد.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.