الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
يقصد بالعناية ظهور آثار الكمال في الخلق والتي تتجلى في إتقانه وإحكامه ودقة صنعه وترابطه.
دليل العناية مبني على أصلين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات التي ههنا موافقة لوجود الإنسان مهيأة له.
الثاني: أن هذه الموافقة وهذه الدقة وهذا الإحكام بالضرورة قد أوجد من قبل حكيم خبير مريد لعبادة الخلق له وتوحيدهم إياه.[1]
فأما الأصل الأول:
وهو كون الموجودات موافقة لوجود الإنسان، فيتحصل اليقين به باعتبار موافقة المخلوقات لوجود الإنسان من الليل والنهار، والشمس والقمر، الأزمنة بفصولها والأمكنة باختلافها، وكثير من الحيوان والنبات والجماد وجزئيات كثيرة مثل الأمطار والأنهار والبحار، وبالجملة كل ما في هذه الأرض وغيرها من مخلوقات فهي موافقة لخلق الإنسان، وكذلك أيضًا تظهر العناية في البدن، كما أن معرفة منافع الموجودات داخلة في هذا الجنس، وكلما كان الموقف على منافع الموجودات وحكمها والغاية التي وجدت لأجله أطول وأكثر تأملا، كان الوقوف على هذه الدلالة أتم.
ويمكن القول بأن هذا كله وغيره يمكن جمعه في ثلاث محاور كما ورد في القرآن الكريم:
المحور الأول: الدقة والإتقان:
جاء ذكر ذلك في كتاب الله في عدة مواضع للفت انتباه المكلفين إلى عظيم قدرته سبحانه وتعالى ودقة خلقه وإيجاده، كما أنه جاء التعبير عنه بعدة ألفاظ منها: الإتقان قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]
وجاء بلفظ سوّى: قال سبحانه: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 37 - 40]، وتسوية الشيء: إتقانه وإحسان خلقه وإكمال صنعته، بحيث يكون مُهيئًا لأداء وظيفته، ويكون مستويًا معتدلًا متناسب الأجزاء ليس بينها تفاوت يُخل بالمقصود.
وجاء بعبارات أخرى مختلفة الألفاظ وإن كانت متقاربة الدلالة كالإحسان ونفي التفاوت وإعطاء الخلق ونحوه، قال سبحانه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، واستدل بذلك نبي الله إلياس محتجًا به على قومه مستدلًا بوجوب عبادته فقال سبحانه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 125، 126]
وإذا كان الخلق يدل على وجود الله جل وعلا فإن دلالة الإتقان والعناية على وجوده أظهر وأبين، لأن العناية أخص من الخلق، إذ قد يُخلق الشيء بغير عناية وإتقان، وهذه العناية ظاهرة في الكائنات كلها، ولكنها في الكائنات الحية أظهر –وفي الإنسان على وجه الخصوص – أظهر وأبين قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
أي لا مجال لنظر ناقد أو نقد مقوم، بل فيه من مظاهر الإتقان ما حير أولي الألباب، ووقفت عنده عيون الناظرين حائرة ذليلة لربها من عظم الدهشة بدقة الخلق وإتقانه وإحكامه.
المحور الثاني: التقدير:
التقدير: هو خلق كل شيء بمقدار وميزان وترتيب وحساب دقيق بحيث يتلاءم مع مكانه وزمانه، وبحيث يتناسق مع غيره من الموجودات القريبة منه والبعيدة عنه.
فإذا كان الإتقان والعناية إعطاء كل شيء من الخلق والتصوير ما يُؤدي به وظيفته على الوجه المناسب له، فإن التقدير أن يكون بالقدر الذي ينفع به نفسه ولا يضر غيره ولا يصطدم بالمخلوقات الأخرى، وذلك يتم إذا ما وضع في مكانه الملائم وزمانه المناسب، وبالكم الذي يصلح ولا يفسد، وعلى الكيفية التي يتحقق بها التناسق والتوازن بين وحدات الكون وأجزائه وينتظم بها سير الوجود.
وهذا التقدير ظاهرة عامة في جميع مخلوقات الله كما قرر سبحانه هذه الحقيقة في كتابه، قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، وقال جل شأنه: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر: 21]، قال سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (وقوله: { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} يقول: فسوى كل ما خلق وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت)[2].
المحور الثالث: الهداية:
الهداية من أظهر الأدلة الكونية على وجود الله جل وعلا، ويقصد بها في هذا المقام أن كل خلق من مخلوقات الله قد ألهم غاية وجوده، وهدى إلى ما خلق من أجله، وألهم الإلهام الفطري أو الغريزي الذي تتوجه به المخلوقات قاطبة إلى أداء دورها وتحقيق وظيفتها في هذه الحياة، قال عز وجل: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63]
وقال سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69].
وهذه الهداية عامة لا تتعلق بالمكلفين فحسب، وليست مقصورة على الكائنات التي تتحرك بالإرادة فحسب، ولكنها هداية مبثوثة في كل شيء في هذا الوجود لتحمل في طياتها أبلغ الأدلة على وجود الرب جل وعلا وبديع صنعه وتدبيره.
وأما الأصل الثاني:
وهو: أن هذه الموافقة وهذه الدقة وهذا الإحكام بالضرورة قد أوجد من قبل حكيم خبير، وهذه قضية بدهية فطرية، لا يجحدها إلا مكابر، وبذلك تكون دلالته في غاية القوة والحجية، حيث قامت على معلومات أولية بدهية، ومشاهدات حسية في متناول الجميع.
ومن تأمل هذا الكون وما فيه من مخلوقات محكمة، يجد أنه قد وضعت في موضعها بدقة وإحكام وعناية فائقة، موافقة للمنفعة الموجودة، والغاية المطلوبة، حتى يرى أنه لو وجد بغير تلك الصفة، أو بغير ذلك الوضع، أو بغير ذلك القدر، لم توجد فيه تلك المنفعة، لأدرك على القطع أن لذلك خالقًا حكيمًا أوجده، وأنه لا يمكن أن تكون قد وجدت اتفاقًا من غير موجد.
ومن الأمثلة على ذلك ما يلي: إذا ما طفت ببصرك وبصيرتك في هذا الكون العظيم وما حوى من مخلوقات؛ الشمس والقمر وسائر الكواكب، والليل والنهار، والأمطار والرياح والمياه، والأنهار والبحار، بل وجود الناس على اختلاف أصنافهم وألوانهم وتنوع أعمالهم، ثم نظرت إلى الأرض فرأيتها قد هيئت لسكنى الناس وسائر الحيوانات البرية، والماء وكونه موافقًا لسكنى الحيوانات المائية، والهواء وحاجة الجميع له، والماء وعدم استغناء مخلوق عنه، وأنه لو اختل شيء من هذا الخلقة والبنية لاختل وجود هذه المخلوقات.
ويمكن أن نلخص دليل الخلق بما يلي:
- كل مخلوق لابد له من خالق.
- لعدم لا يمكن أن يخلق شيئًا.
- فاقد الشيء لا يعطيه.
- التدبر في صفات المخلوق يدلنا على بعض صفات الخالق.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.