الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛...
عن موسى بن إسماعيل قال: (سمعتُ شعيبًا يقول: رأيتُ الحسنَ يقرأُ فيبكي حتى ينحدر الدمعُ على لحيته)([1])، وكان يقول: (كانوا يقولون: مَنَعَ البرُّ النومَ، ومَنْ يخف يُدْلِج)([2])، "يدلج": يسير من أول الليل، ومقصوده أن الخوف يحرك العبدَ للطاعة.
سأل المغيرةُ بن مخادش الحسنَ فقال: (يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوامٍ يحدثونا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: أيها الشيخ، إنك واللهِ إنْ تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدركَ أمنًا خيرٌ لك من أن تصحبَ أقوامًا يُؤمِّنُونُك حتى تلحقك المخاوفُ)([3]).
عن الحسن قال: (المؤمن من يعلم أن ما قالَه اللهُ عز وجل كما قال، والمؤمنُ أحسن الناسِ عملًا، وأشد الناس خوفًا، لو أَنْفَقَ جبلًا من مالٍ ما أمن دون أن يعاين، ولا يزداد صلاحًا وبِرًّا وعبادةً إلا ازداد فَرَقًا، يقول: ولا أنجو، والمنافقُ يقول: سواد الناس كثيرٌ وَسَيُغْفَرُ لي ولا بأس عليَّ!! يسيئُ في العملِ ويتمنى على اللهِ عز وجل)([4])، ففي هذا الأثر دلالة ظاهرة على ضرورة الجمع بين الخوف من الله وخشيته وبين طاعته عز وجل.
عن صالح بن حسان قال: (أمسى الحسنُ البصري صائمًا، فجئناه بالطعامِ عند فطره، فلما قرب إليه الطعام تلا رجلٌ عنده هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12-13]، قال: فقلصت يده عن الطعام، فقال: ارفعوه.
قال: فأصبح صائمًا إذ في ليتله تلك كان يتفكر في أمرِ الآية، فلما أرادَ أن يفطر في اليومِ الآخر تذكر الآيةَ فأعرض عن الطعامِ!! فلما كان اليوم الثالث انطلق ولدُه إلى ثابت البناني ويحيى البَكَّاء وأناس من أصحاب الحسن، فقال: أدركوا أبي فإنه لم يذقْ طعامًا منذ ثلاثة أيام، كلما قرَّبنا إليه إفطاره تذكرَ قولَ اللهِ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12-13]، قال: فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربةً من سويق)([5]).
وعن مسروق بن الأجدع قال: (كفى بالمرء علمًا أن يخشى اللهَ، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعملِه)([6]).
قال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارسَ أهلِ الشام -: (تركتُ الذنوبَ خشيةً أربعين سنة، ثم أدركني الورعُ)([7])، ويدل هذا على الجمع بين الخشية والعمل.
وعن ابن عون، قال: (ما رأيتُ أحدًا كان أعظم رجاءً لهذه الأمة من محمد بن سيرين وأشد خوفًا على نفسه منه)([8]).
عن قتادة قال: (سأل عامرُ بن عبدِ اللهِ ربَّه أن يهون عليه الطهور في الشتاء؛ فكان يُؤتى بالماءِ له بخار، وسألَ ربَّه أن ينزعَ شهوةَ النساءِ من قلبِه؛ فكان لا يبالي أذكرًا لقيَ أم أنثى، وسألَ ربَّه أن يَحُولَ بين الشيطان وبين قلبِه وهو في الصلاةِ؛ فلم يقدر على ذلك)، قال: (وكان إذا غزا فيُقال: إن هذه الأجمة نخاف عليك فيها الأسد، قال: إني لأستحي من ربِّي أن أخشى غيرَه)([9])، وهذا يُحمل على قوة توكله بعد أخذه بالسبب؛ فالخوف من السبع خوفٌ طبعي لا ذَمَّ فيه.
(لما نَزَلَ بعبدِ اللهِ بن عامر بن عبد الله بن أوس – أي حضره الموت - بكى، فاشتد بكاؤه، فأرسل أهلُه إلى أبي حازم: أن أخاك قد جَزِعَ عند الموت فَأْتِه فَعَزِّه وصَبِّرْهُ، قال ابنُ أبي حازم: فأتيتُه مع أبي، فقال له أبي: يا عامر، ما الذي يبكيك؟ فواللهِ ما بينك وبين أن ترى السرور إلا فِرَاق هذه الدنيا، وإن الذي تبكي منه للذي كنتَ تدأبُ له وتنصب!! فأخذ عامرُ بجلدة ذراعه ثم قال: يا أبا حازم، ما صبرُ هذه الجلدة على نارِ جهنم؟! فخرج أبي يبكي لكلامه، وأُذِّنَ لصلاة الظهر، فقام يريدُ المسجدَ فسقط، وتُوفي وهو صائم ما أفطر)([10]).
عن المغيرة بن حكيم قال: (قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصيامًا من عمر؛ ولكني لم أرَ من الناسِ أحدًا قد كان أشد خوفًا من ربِّه من عمر، كان إذا دخل البيتَ ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل ذلك ليلته أجمع)([11]).
وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك: (بكى ﻋﻤﺮُ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻌﺰﻳﺰ؛ ﻓﺒﻜﺖ فاطمة، ﻓﺒﻜﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺪﺍﺭ، ﻻ ﻳﺪﺭﻱ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﺎ ﺃﺑﻜﻰ ﻫﺆﻻﺀ، ﻓﻠﻤﺎ ﺗﺠﻠﻰ ﻋﻨﻬﻢ ﺍﻟﻌﺒﺮ، ﻗﺎﻟﺖ ﻓﺎﻃﻤﺔ: ﺑﺄﺑﻲ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻣﻢ ﺑﻜﻴﺖ؟! ﻗﺎﻝ: ﺫﻛﺮﺕ ﻳﺎ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻣﻨﺼﺮﻑ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﻠﻪ؛ ﻓﺮﻳﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﺔ، ﻭﻓﺮﻳﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﻴﺮ، ﺛﻢ ﺻﺮﺥ ﻭﻏﺸﻲ ﻋﻠيه)([12]).
من صور خوفه من مقام الله تعالى، والتي ظهرت واضحةً في أقواله وأفعاله، وتمثلت في شخصيته وشئون حياته العلمية والعملية، عن المروزي قال: (سمعتُ الإمام أحمد يقول: الخوفُ قد منعني أكلَ الطعامِ والشراب فما أشتهيه)([13]).
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: (سمعتُ أبي يقول: وددتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كفافًا، لا عَلَيَّ ولا لي)([14]).
وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: (كان أبي إذا دعا له رجلٌ قال: الأعمال بالخواتيم، وكنتُ أسمعه كثيرًا يقولُ: اللهُمَّ سَلِّم سَلِّم)([15]).
ذكر ابنُ قاسم: ومن المشتهر بكاؤه لما قُرئ عليه حادثة الإفك، وقصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا، كذلك لما قُرئ عليه حديث غزوة أبي عبيدة قبل الساحل في صحيح البخاري، وفيه أن قوت الصحابي كان تمرةً واحدةً في اليوم يمصُّها ويشرب عليها الماء؛ فبكى الشيخُ ابن باز بكاءً شديدًا، واستمر يبكي سبع دقائق، ثم يشرح الحديث وصوته يتقطع وهو يصف حال الصحابة وجهادهم، ويقارن بين النعم في عصرنا وعدم تقدير الناسِ لها([16]).
فمن تأمل لهذا الموقف وجد أن دافع الشيخ ابن باز في البكاء هو الخوف من الله تعالى، حينما تذكر الإسراف في النعم، فعظمةُ اللهِ وهيبته سكنت قلبَه ووجدانه، فظهرَ خوفُه وخشيتُه مِنَ اللهِ تعالى.
ومن صور بكائه ورقة قلبه عند ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عن سنته، ومن ذلك: (لما سُئِلَ عما افترته عليه هيئةُ الإذاعة البريطانية من أنه يكفر من يحيي المولد النبوي، فنفى ذلك، وتطرق لقضية حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا دخل للمولد بذلك، وقال: بل هو أحب إلينا وإلى أهل السنة من آبائهم وأمهاتهم وأنفسهم صلى الله عليه وسلم.
ثم استطرد في ذلك إلى أن غلبه البكاء، ثم واصل صوته يتهدج من البكاء قائلًا: نشهدُ أنه أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا، ووالله لو شرعه لقلنا به، ولكنه ما فعله ولا فعله أصحابُه، ثم غلبه البكاءُ والتأثر وهو يتكلم حتى غابَ بعضُ حديثه)([17]).
الهوامش:
([3]) الزهد، أحمد بن حنبل، ص(259)، وحلية الأولياء، أبو نعيم، (2/150)، وذكره المزي في تهذيب الكمال، (2/118).
([4]) الزهد، ابن أبي الدنيا، ص(95)، الزهد، عبد الله بن المبارك، ص(532)، وسير أعلام النبلاء، الذهبي، (4/586).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.