الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 139 - 148].
وقال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88].
أرسل الله تعالى يونس بن متى عليه السلام، إلى قومه فدعاهم إلى الله تعالى فلم يؤمنوا وأصروا على كفرهم، فتوعدهم بالعذاب فلم ينيبوا، لم يصبر عليهم كما أمره الله، وخرج من بينهم غاضبًا عليهم، ضائقًا صدره بعصيانهم، وظن أن الله لن يضيق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة، فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس، والتقمه الحوت في البحر.
قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، وقال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}، أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو يونس بن متى، أي: صاحب النون، وهو الحوت، بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.[1]
قال ابن كثير: إن الله بعثه – يونس عليه السلام إلى أهل قرية "نينوي"، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عزوجل، ولجؤوا إليه، ورغت الإبل وفضلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها،[2] فجاءهم العذاب ورأوه عيانًا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
وقال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله.
ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبًا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها لقوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} والظاهر أنه عجلته ومغاضبته لقومه، وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه، فركب في السفينة مع أناس، فاقترعوا من يلقون منهم في البحر؟
لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم، فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت تائبًا معترفًا بظلمه، لتركه الصبر على قومه، قائلا: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال الله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
فأقر الله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، ولهذا قال الله تعالى هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي الشدة التي وقع فيها {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف لإيمانه كما فعل بـ (يونس) عليه السلام[3]، والله أعلم.
الهوامش:
الهوامش:
[1] تفسير السعدي (1/529)
[2] تفسير ابن كثير (5/366)
[3] تفسير السعدي (1/529)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.