إن الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد؛ فلقد وفق الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنابة إليه وطاعته، وتاب الله على المهاجرين الذين هجروا ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وتاب على أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة (تبوك) في حر شديد، وضيق من الزاد والظهر، لقد تاب الله عليهم من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، فيميلون إلى الدعة والسكون، لكن الله ثبتهم وقواهم وتاب عليهم، إنه بهم رؤوف رحيم.
ومن رحمته بهم أن من عليهم بالتوبة، وقبلها منهم، وثبتهم عليها، قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
قال الخازن في قوله عز وجل: { قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الآية تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ومعنى توبته على النبي محمد صلى الله عليه وسلم : عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } [التوبة: 43]، فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابًا، وقال أصحاب المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41].
قال الطبري في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} مفتاح كلام لله ما في السماوات وما في الأرض، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا[1]، ومعنى هذا: أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فهو تشريف له.[2]
وقال ابن العربي: (توبة الله على النبي صلى الله عليه وسلم رده من حالة الغفلة إلى حالة الذكر، وتوبة المهاجرين والأنصار رجوعهم من حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وانتقالهم من حالة الكسل إلى حالة النشاط، وخروجهم عن صفة الإقامة والقعود إلى حالة السفر والجهاد)[3]، وقال القرطبي: (توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم)[4].
وقد سئل ابن تيمية – رحمه الله – عن معنى توبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر؟ فأجاب – رحمه الله تعالى -: بأن الأنبياء – عليهم صلوات الله وسلامه – معصومون من الإقرار على الذنوب كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين[5]، جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه"[6].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنا كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: في المجلس الواحد يقول: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) [الرحيم] مائة مرة.[7]
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)[8].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)[9].
الهوامش:
[1] زيادة من تفسير الطبري (13/ 548)
[2] تفسير الخازن (3/354)
[3] أحكام القرآن لابن العربي (4/446)
[4] تفسير القرطبي (8/594)
[5] الفتاوى لابن تيمية (15/ 51)
[6] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (2/50)، رقم الحديث: 1116.
[7] صحيح أخرجه أحمد في المسند، باب مسند عبد الله بن عمر الخطاب، (10/ 32) رقم الحديث (4496).
[8] صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، (8/72) رقم الحديث (7032)
[9] صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، (5/2324)، رقم الحديث (5948).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.