الحمد لله الواهب المقتدر ربُ العالمين، والصلاة والسلام على من أنزل عليه كتاب معجز محفوظ إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الشيخ عباس بن منصور السكسكي رحمه الله ، المتوفى سنة (683 هـ)، في كتابه: البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان: ((قد ذكرتُ هذه الفرقة الهادية المهديَّة -أي: أهل السنة - وأنَّها على طريقةٍ متَّبعةٍ لهذه الشريعة النبويَّة... وغير ذلك مما هو داخل تحت الشريعة المطهرة، ولم يشذ أحدٌ منهم عن ذلك سوى فرقة واحدةٍ تسمَّت بـالصوفية ، ينتسبون إلى أهل السنة ، وليسوا منهم، قد خالفوهم في الاعتقاد، والأفعال، والأقوال.
أمَّا الاعتقاد: فسلكوا مسلكاً للباطنية الذين قالوا: إن للقرآن ظاهراً، وباطناً، فالظاهر: ما عليه حملة الشريعة النبويَّة، والباطن: ما يعتقدونه، وهو ما قدَّمتُ بعض ذكره.
فكذلك أيضاً فرقة الصوفية ، قالت: إنَّ للقرآن والسنَّة حقائق خفيَّة باطنة غير ما عليه علماء الشريعة مِن الأحكام الظاهرة التي نقلوها خَلَفاً عن سلف، متصلة بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيد الصحيحة، والنقلة الأثبات، وتلقته الأمَّة بالقبول، وأجمع عليه السواد الأعظم، ويعتقدون أنَّ الله عز وجل حالٌّ فيهم!! ومازج لهم!! وهو مذهب الحسين بن منصور الحلاج المصلوب في بغداد في أيام المقتدر -الذي قدمتُ ذكره الروافض في فصل فرقة الخطابيَّة - ولهذا قال: أنا الله -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- وأنَّ ما هجس في نفوسهم، وتكلموا به في تفسير قرآنٍ، أو حديثٍ نبويٍّ، أو غير ذلك مما شَرَعوه لأنفسهم، واصطلحوا عليه: منسوب إلى الله تعالى، وأنَّه الحق، وإِنْ خالف ما عليه جمهور العلماء، وأئمَّة الشريعة، وفسَّرتْه علماء أصحابه، وثقاتهم، بناءً على الأصل الذي أصَّلوه مِن الحلول، والممازجة، ويدَّعون أنَّهم قد ارتفعت درجتُهم عن التعبدات اللازمة للعامَّة، وانكشفت لهم حجب الملكوت، واطَّلعوا على أسراره، وصارت عبادتهم بالقلب لا بالجوارح.
وقالوا: لأنَّ عمل العامة بالجوارح سُلَّمٌ يؤدِّي إلى علم الحقائق، إذ هو المقصود على الحقيقة، وهي البواطن الخفيَّة عندهم، لا عملٌ بالجوارح، قد وصلنا، واتصلنا، واطَّلعنا على علم الحقائق الذي جهلته العامَّة، وحملة الشرع، وطعنوا حينئذٍ في الفقهاء والأئمَّة والعلماء، وأبطلوا ما هم عليه، وحقَّروهم وصغَّروهم عند العوام والجهَّال، وفي أحكام الشريعة المطهرة، وقالوا: نحن العلماء بعلم الحقيقة، الخواص الذين على الحق، والفقهاء هم العامة؛ لأنَّهم لم يطلعوا على علم الحقيقة، وأعوذ بالله من معرفة الضلالة، فلمَّا أبطلوا علم الشريعة، وأنكروا أحكامها: أباحوا المحظورات، وخرجوا عن إلزام الواجبات، فأباحوا النظر إلى المردان، والخلوة بأجانب النسوان، والتلذذ بأسماع أصوات النساء والصبيان، وسماع المزامير والدفاف والرقص والتصفيق في الشوارع والأسواق بقوة العزيمة، وترك الحشمة، وجعلوا ذلك عبادة يتدينون بها، ويجتمعون لها، ويؤثرونها على الصلوات، ويعتقدونها أفضل العبادات، ويحضرون لذلك المغاني من النساء، والصبيان، وغيرهم مِن أهل الأصوات الحسنة للغناء بالشبابات، والطار، والنقر، والأدفاف المجلجلة، وسائر الآلات المطربة، وأبيات الشعر الغزلية التي توصف فيها محاسن النِّسوان، ويذكر فيها ما تقدم من النساء التي كانت الشعراء تهواها، وتشبب بها في أشعارها، وتصف محاسنها كليلى، ولبنى، وهند، وسعاد، وزينب، وغيرهنَّ، ويقولون: نحن نكنِّي بذلك عن الله عز وجل!! ونَصرف المعنى إليه ))[1].
وقال الإمام المفسر أبو الحسن الواحدي: ((صنف أبو عبد الرحمن السلمي ، حقائق التفسير، ـ وهو تفسير على الطريقة الصوفية بما يعرف بالتفسير الإشاري ـ فإن كان يعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر))[2].
ويقول عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي في كتابه: (الفتح الرباني والفيض الرحماني[3]): ((فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلوماً باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد صلى الله عليه وسلم، داخل تحت قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخر هم غافلون})).
وقد وقع في كتب الصوفية الكثير من التفاسير لآية القرآن بغير ظاهرها منها:
ما أورده السيوطي في كتابه الإتقان (2ـ184) عن أحد الصوفية أنه فسر قوله تعالى في الآية (255) من سورة البقرة {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فقال: معناه: (من ذل) من الذل (ذي) إشارة النفس، (يشف) من الشفاء (ع) من الوعي)." ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقول ابن عطاء الله السكندري: ((سمعت شيخنا ـ يقصد المرسي أبو العباس ـ يقول في قوله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي: ما نذهب من ولي لله إلا ونأتِ بخير منه أو مثله.[4]
وقول ابن عربي في كتابه الفصوص[5]: "﴿يرسل السماء عليكم مدراراً﴾ وهي المعارف العقلية في العاني والنظر الاعتباري!!﴿ويمددكم بأموالٍ﴾: أي بما يميل بكم إليه, فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه, فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف!ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف!! فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم!"
وقوله (صفحة: 51): "﴿ وقضى ربك أن لاتعبدوا إلا إياه﴾ أي حكم، فالعالم يعلم من عَبد, وفي أي صورة ظهر حتى عُبد, وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة, وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية, فما عُبد غير الله في كل معبود!!!".
وقوله (صفحة: 60): ﴿إنك إن تذرهم﴾ أي: تتركهم, ﴿يضلوا عبادك﴾: إلى الخير!! فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية, فينظرون أنفسهم أرباباً بعد ما كانوا أنفسم عبيداً, فهم العبيد الأرباب!!!.
وقوله (صفحة:60-61): ﴿رب اغفر لي﴾: استرني, واستر من أجلي, فيجهل مقامي وقدري, كما جهل قدرك في قولك ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾.﴿ولوالدي﴾: من كنت نتيجة عنهما, وهما العقل والطبيعة!! ﴿ولمن دخل بيتي﴾ أي: قلبي!!﴿مؤمناً﴾ أي مصدقاً لما يكون فيه من الإخبارات الإلهية, وهو ما حدثت به أنفسها!!﴿وللمؤمنين﴾: من العقول!!﴿وللمؤمنات﴾: من النفوس!!"
وقوله (صفحة: 61): "ومن أسمائه الحسنى: العلي, على من وما ثم إلا هو؟!!فهو العلي لذاته.أو عن ماذا, وما هو إلا هو؟!!!فعلوه لنفسه, وهو من حيث الوجود عين الموجودات, فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو!!"
وقوله (صفحة: 62): " فهو الأول والآخر والظاهر والباطن, فهو عين ما ظهر, وهو عين ما بطن في حال ظهوره, ومن ثم من يبطن عنه, فهو ظاهر لنفسه, باطن عنه, وهو المسمى أبا سعيد الخراز, وغيرهما من أسماء المحدثات!!!". – وقوله (ص: 68) : ﴿ وخلق منها زوجها﴾: فما نكح سوى نفسه, فمنه الصاحبة والولد, والأمر واحد في العدد!!!".
وقوله (صفحة: 84): ﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم﴾: فكل ماشٍ فعلى صراط الرب المستقيم, فهم غير مغضوب عليهم، ولا ضالون, فكما الضلال عارض كذلك الغضب الإلهي عارض, والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء!!!".
وقوله (صفحة: 89): "ألا ترى عاداً قوم هود كيف قالوا: ﴿ هذا عارضٌ ممطرنا﴾ فظنوا خيراً بالله فأضرب لهم الحق عن هذا القول, فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب, فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقي الحبّ, فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا بعد, فقال لهم: ﴿ بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذاب أليم﴾, فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة, فإن بهذه الريح أراحهم من الهياكل المظلمة والسال الوعرة والسدف المدلهمة!!وفي هذا الريح عذابٌ, أي: أمرٌ يستعذبونه إذا ذاقوه إلا أن يوجعهم لفرقة المألوف!!
وقوله (صفحة: 93): " فقل في الكون ما شئت, إن شئت قلت: هو الخلق, وإن شئت قلت: هو الحق, وإن شئت قلت هو الحق الخلق, وإن قلت: لا حق من كل وجه, ولا خلق من كل وجه, وإن قلت بالحيرة في ذلك, فقد بانت المطالب بتعينك المراتب, ولولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور,ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه:
فلا تنظر العين إلا إليه ولا يقع الحكم إلا عليه".
وقوله (صفحة: 102): " وأما أهل النار فمآلتهم إلى النعيم، ولكن في النار, إذ لابد لصورة النار- بعد انتهاء مدة العقاب - أن تكون برداً على من فيها!! وهذا نعيمهم, فنعيم أهل النار نعيم خليل الله حين ألقي في النار!!! فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان,وما علم مراد الله ومنها في حقه, فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً وسلاما, مع شهود الصورة اللونية في حقه, وهي نار في عيون الناس, فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين, هكذا هو التجلي الإلهي!!!".
وقوله (صفحة: 112): "وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون, لأنه علم ما عبده أصحاب العجل, لعلمه بأن الله قضى ألا نعبد إلا إياه, وما حكم الله بشيء إلا وقع, فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه,فإن العارف من يرى الحق في كل شيء, بل يرى الحق في كل شيء, بل يراه عين كل شيء!!!".قال الشيخ زين الدين العراقي: " هذا الكلام كفرٌ من قائله من وجوه:
أحدها: أنه نسب موسى عليه الصلاة والسلام إلى رضاه بعبادة قومه العجل.
الثاني: استدلاله بقول تعالى: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾ على أنه قدّر أن لا يعبد إلا هو, وأن عابد الصنم عابد له.
الثالث: أن موسى عتب على أخيه هارون عليها الصلاة والسلام إنكاره لما وقع وهذا كذب على موسى عليه الصلاة والسلام, وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبه لعبادته العجل.
الرابع: أن العارف يرى الحق في كل شيء, بل يراه عين كل شيء, فجعل العجل عين الإله المعبود!!! فليعجب السامع لمثل هذه الجرأة التي لا تصدر ممن في قلبه مثقال ذرة من الإيمان!".
وقوله (صفحة: 118) عند قوله تعالى: ﴿قرة عينٍ لي ولك﴾: "وكان قرة لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق, فقبضه طاهراً مطهراً, ليس فيه شيء من الخبث, لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئاً من الآثام, والإسلام يجّبُ ما قبله, وجعله آيةً على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء, حتى لا ييأس أحدٌ من رحمتهٌ, فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون!!".
وقال ابن عربي في مقدمة كتابه الذي ننقل عنه (صفحة: 38): " أما بعد، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبعٍ وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق, وبيده كتابٌ, فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه, واخرج به إلى الناس ينتفعون به, فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا, كما أُمرنا, فحققت الأمنية, وأخلصت النية, وجرد القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان". اهـ.
[1] (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد 59 /60).
[2] (فتاوى ابن الصلاح: صفحة 29).
[3] (الفتح الرباني والفيض الرحماني صفحة 133)
[4] (لطائف المنن صفحة: 63)
[5] كتابه الفصوص (صفحة: 49)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.